التفرقة بين المحسن وبين المسيء ؛ فإن التفرقة بين من اصطفى الأموال وسفك الدماء ، وبين من أرشد الضّال ، وأطعم الجائع ، وهدى إلى السبيل ، وأمّن الطريق ، وتفضّل على المحتاجين بالأموال ـ معلومة ضرورة ، يشترك (١) في معرفة ذلك العقلاء كلّهم من أقرّ بالصّانع واعترف بالشرائع ، ومن لم يقرّ بشيء من ذلك بل جحده كالملاحدة فإنها تعرف ذلك ، وهي معرفة ظاهرة مع اشتراك الفعلين والفاعلين في اللذة والألم ، وكون الفاعلين مشتركين في كونهما منهيّين ، ومملوكين ، ومربوبين ، ومحدثين ، فلم يبق إلا أن تكون (٢) التفرقة الحاصلة بين الفعلين هي غير ذلك ، وهي الحسن والقبح. وكما يعلمون ذلك باضطرار ، فإنهم يعلمون التفرقة بين من قطع يده لا لغرض ، وبين من قطعها من خوف أن تسري إليها الجراحة فتؤدي إلى هلاكه ، ويفرّقون بين الفعلين فرقا ظاهرا حاصلا بفطرة العقل ، ويعلمون أنه ممدوح على قطع يده لغرض ، وغير ممدوح بل مذموم على قطعها لغير غرض ، مع اشتراك الفعلين في نفور النّفس والإلف والعادة وسائر الوجوه التي ذكرناها ، وليس ذلك إلا لعلمهم بالقبح في أحدهما دون الآخر ، وهذا أمر لا يمكن دفعه ولا يردّه إلا مكابر لعقله أو من هو معتوه لا عقل له ، فبطل بذلك قول الفلاسفة والأشعرية والقدرية.
والموضع الثاني (٣) ـ في الدلالة على أن القبيح يقبح لوجوه يقع عليها. فالذي (٤) يدل على ذلك أن العقلاء يعلمون باضطرار أن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها من كونها ظلما أو كذبا أو تكليفا لما لا يطاق ، أو تكليفا لما لا
__________________
(١) في (ب) ، (ج) : ويشترك.
(٢) في (ب) : يكون.
(٣) في (ب) و (ج) : وأما الموضع الثاني. وفي (ب) بزيادة وهو في الدلالة.
(٤) في (ب) ، (ج) : والذي.