لم قلتم : إن كونه موجودا بغيره يستدعي حدوثه عن عدم فإن وجود الشيء بالشيء لا ينافي كونه دائم الوجود به ، وإنما يتبين هذا بأن نبحث في الموضع المتفق أنه إذا أحدثه عن عدم هل كان سبق العدم شرطا في تحقق الأحداث؟.
قلنا : لا يجوز أن يكون شرطا فإن المحدث ما استند إلى المحدث إلا من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد فيجوز أن يكون دائم الوجود بغيره.
والجواب : قلنا : الواجب أن نزيل عن الكلام ما يوقعه الوهم حتى يتجرد المعقول الصرف عن العقل فقول القائل وجد عن عدم أو بعد العدم أو سبقه العدم إن كان يعني به أن العدم شيء يتحقق له سبق وتقدم وتأخر واستمرار أو انقطاع أو شيء يوجد عنه شيء ، فذلك كله من إيهام الخيال حيث لم يمكنه تصور الأولية في الشيء الحادث إلا مستندا إلى شيء موهوم كالزمان والمدة كما لم يمكنه تصور النهاية في العالم إلا مستندا إلى شيء موهوم كالخلاء والفضاء وكما لم يمكن فرض خلاء بين وجود الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أيضا فرض زمان وتقدير زمان بين وجود الباري تعالى وبين العالم ، فإن ذلك من عمل الوهم فقط ولا يلزم منه المعية بالزمان كما لا يلزم المعية من المكان فافهم ذلك (١) ، فيجب أن تزيل هذا الإيهام عن فكرك فيتصور أن وجود شيء لا من شيء هو المعني بحدوث الشيء عن العدم ، فإن قولنا له أول المعنى بحدوثه ، وإن قولنا لم يكن فكان هو المعنى بسبق العدم إذ لا بدّ من عبارة وتوسع في الكلام ليطلق لفظ السبق والتأخر والاستمرار والانقطاع وإذا ثبتت هذه القاعدة ، فنقول : إذا كان العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته والممكن معناه أنه جائز الوجود وجائز العدم فيستوي طرفاه أعني الوجود والعدم باعتبار ذاته ، فإذا وجد فإنما يوجد باعتبار موجده ولو لا موجده لما استحق إلا العدم ، فهو إذا مستحق الوجود والعدم بالاعتبارين المذكورين فكان واجب الوجود سابقا عليه بالذات والوجود إذ لولاه لما وجد ، ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالذات والوجود جميعا لأن قبل ومع بالذات والوجود لا يجتمعان في شيء واحد فهو إذا متأخر الوجود ولا يجوز أن يكون مع واجب الوجود بالزمان لأنه يوجب أن يكون واجب الوجود زمانيا لأن قولنا مع من جملة المتضايفات كالأخوة والأبوة فأحد الشيئين إذا كان مع الثاني بالزمان كان الثاني معه أيضا بالزمان وبكل اعتبار أثبت المعية في أحد الشيئين وجب عليك أن تثبتها في الشيء الثاني ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود
__________________
(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ١٨٧).