إن كان منطقيا وبالإشارة والإيماء إن كان أبكم ، فعلم من ذلك أن الذي حصل في الخيال غير والذي حصل في النفس غير وأن الذي حصل في العقل غير ومن أمكنه التمييز بين هذه الاعتبارات سهل عليه تقدير النطق النفساني والقول بأن ذلك المعنى جنس ونوع من المعاني له حقيقة لا تختلف والذي في الخيال واللسان ليس جنسا ونوعا حقيقيا ثابتا بل يختلف ذلك بحسب الاصطلاح والمواضعة وعلى إمكان التعبير من حال إلى حال ومن شخص إلى شخص ومكان إلى مكان وذلك ليس كلاما حقيقيا ولا نوعا متنوعا ويتبعه الذي في الخيال من الصور والأشكال عن الحروف والكلمات التي في السمع وعن المبصرات والمدركات التي في البصر لكن المعاني التي في النفس حقائق موجودة تتردد فيها النفس بنطقها الذاتي وتمييزها العقلي وهذا لا ينكره إلا من أنكر نفسه وعدم حديثه وحسه.
وقولهم : يجوز أن يحصل التفاهم بالنقرات والرمزات كما يحصل بالعبارات (١).
قلنا : وهذا من الدليل القاطع على أن الذي في اللسان كلام مجازي ، فإن التفاهم حاصل بغيره والفهم نطق نفساني دون العلم العقلي فإن الإنسان يجوز أن يفهم باطلا وينكره بعقله ، فالفهم غير ذلك فالفهم غير والعلم غير ، وذلك الفهم مدلول كلام القائل فقط وهو نطق مجرد نفساني ومحاورة فكرية إذ يديره في خلده فيجيب عنه تسليما له واعتراضا عليه وربما يكون معنى في الذهن يبسط ويشرح في العبارة وربما يكون معاني كثيرة تقبض وتختصر في اللفظ وبالجملة مدلولات العبارات والإشارات نطق نفساني بخلاف مدلولات أصوات البهائم وتغريد الطير ، فإنها وإن حصل بها التفاهم الخيالي فلم يحصل بها الفهم النفساني حتى تتصرف فيما سمعته بالكلية والجزئية والموجبة والسالبة والذاتية والعرضية فقد عدمت تلك النفوس ما هو من خواص النفس الإنسانية وعدمت أيضا ما هو من خواص العقل الإنساني من الاعتبارات الكلية التي له ، والأحكام الجزئية التي إليه وبالجملة فهي عادمة الكليات واجدة الجزئيات فلم تكن أصواتهم وألحانهم قولا ونطقا وما ورد في التنزيل من نسبة الكلام إلى أمثالهم فهو محمول على أحد وجهين أحدهما : أنه أعطاهم عقلا وأنطقهم حقيقة بحرف وصوت ، وجعل ذلك معجزة لذلك النبي الذي هو في زمانه ، والثاني : أنه أجرى على لسانهم وهم لا يعرفون كلاما ففهمه نبي ذلك الزمان من غير أن يشعر به المتكلم من الوحش
__________________
(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ١٠١) ، والصواعق المرسلة لابن قيم (٢ / ٦٤٥).