وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ، واعلم أنه كما لا تطرق لم إلى ذات الباري تعالى وصفاته لم تتطرق إلى صنائعه وأفعاله حتى لا يلزم أن يجاب لأنه كذا أو لكونه كذا ، فلا يقال : لم وجد ولم كان العالم ولا يقال لم أوجد العالم ولم خلق العباد ولم كلف العقلاء ولم أمر ونهى ولم قدر وقضى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣].
قالت المعتزلة : نحن على طريقين في وجوب رعاية الصلاح والأصلح فشيوخنا من بغداد حكموا بأن الواجب في الحكمة لخلق العالم وخلق من يكون قابلا للتكليف ثم استصلاح حاله بأقصى ما يقدر من إكمال العقل والأقدار على النظر والفعل وإظهار الآيات وإزاحة العلل وكل ما ينال العبد في الحال والمآل من البأساء والضراء والفقر والغنى والمرض والصحة والحياة والموت والثواب والعقاب فهو صلاح له حتى تخليد أهل النار في النار صلاح لهم وأصلح فإنهم لو أخرجوا منها لعادوا لما نهوا عنه وصاروا إلى شر من الأول وشيوخنا من البصرة صاروا إلى أن ابتداء الخلق تفضل وإنعام من الله تعالى من غير إيجاب عليه لكنه إذا خلق العقلاء وكلفهم وجب عليه إزاحة عللهم من كل وجه ورعاية الصلاح والأصلح في حقهم بأتم وجه وأبلغ غاية.
قالوا : والدليل على المذهبين أن الصانع حكيم والحكيم لا يفعل فعلا يتوجه عليه سؤال ويلزم حجة بل يزيح العلل كلها فلا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يتحقق الوسع إلا بإكمال العقل والإقدار على الفعل ولا يتم الغرض من الفعل إلا بإثبات الجزاء (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] فأصل التخليق والتكليف صلاح والجزاء صلاح وأبلغ ما يمكن في كل صلاح هو الأصلح وزيادات الدواعي والصوارف والبواعث والزواجر في الشرع وتقدير ألطاف بعضها خفي وبعضها جلي فأفعال الله تعالى اليوم لا تخلو من صلاح وأصلح ولطف وأفعال الله تعالى غدا على سبيل الجزاء إما ثواب أو عوض أو تفضل فالصلاح ضد الفساد وكل ما عري عن الفساد يسمى صلاحا وهو الفعل المتوجه إلى الخير من قوام العالم وبقاء النوع عاجلا والمؤدي إلى السعادة السرمدية آجلا والأصلح هو إذا صلاحان وخيران فكان أحدهما أقرب إلى الخير المطلق ، فهو الأصلح واللطف هو وجه التيسير إلى الخير وهو الفعل الذي علم الرب تعالى أن العبد يطيع عنده وليس في مقدور الله تعالى لطف وفعل لو فعله لآمن الكفار ، ثم الثواب هو الجزاء على الأعمال الحسنة والعوض هو البدل عن الفائت كالسلامة التي هي بدل الألم والنعيم الذي هو في مقابلة البلايا والرزايا والفتن