وأما المعتزلة والقدرية : فأثبتوا للقدرة الحادثة تأثيرا في الإيجاد والأحداث من الحركات والسكنات وبعض الاعتقادات والاعتمادات والنظر والاستدلال من نفسه أنها تتوقف على البواعث والدواعي وورود التكليف بمباشرتها والكفّ عنها.
ووافقنا الفلاسفة على أن جسما ما أو قوة في جسم لا يصلح أن يكون مبدعا لجسم.
ووافقنا المجوس على أن الظّلمة لا يجوز أن تحدث بإحداث النور.
ووافقنا المعتزلة على أن القدرة الحادثة لا تصلح لإحداث الأجسام والألوان والطعوم والروائح وبعض الإدراكات والحياة والموت ولهم اختلاف مذهب في المتولدات وإنما أوردنا هذه المسألة عقيب حدث العالم لأن الدليل لما قام على أن الممكن بذاته من حيث إمكانه استند إلى الموجد وأن الإيجاد عبارة عن إفادة الوجود فكل موجود ممكن مستند إلى إيجاد الباري سبحانه من حيث وجوده ، والوسائط معدات لا موجبات وهذا هو مدار المسألة(١).
ولنا في هذا المعنى كلام مع الفلاسفة على مقتضى قواعدهم ومع المجوس على موجب أصلهم باعتبار أنه موجود ، ومع المعتزلة على موجب عقائدهم.
أما الكلام على الفلاسفة فنقول كل موجود بغيره ممكن باعتبار ذاته لو جاز أنه يوجد شيئا فأما أن يوجده باعتبار أنه موجود بغيره أو باعتبار أنه ممكن بذاته أو باعتبارهما جميعا لكن لا يجوز أن يوجد باعتبار أنه موجود بغيره إلا بشركة من ذاته إذ لا تعزب ذاته عن ذاته ولا يخرج وجوده عن حقيقته وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود والإمكان طبيعته طبيعة عدمية فلو أثر في الوجود لأثر بشركة العدم وهو محال.
وهذا البرهان إنما نقلناه عن قولهم في الجسم إنه لا يؤثر في الجسم إيجادا وإبداعا ؛ إذ الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بشركة من المادة والمادة لها طبيعة عدمية ، فلا يجوز أن توجد شيئا فالجسم لا يجوز أن يوجد أيضا فإمكان الوجود كالمادة ونفس الوجود كالصورة ، كما أن الجسم لا يؤثر من حيث صورته إلا بشركة من المادة كذلك الموجود بغيره الممكن باعتبار ذاته لا يؤثر من حيث وجوده إلا بشركة من إمكان الوجود فلا موجد على الحقيقة إلا بوجود واجب بذاته من كل وجه لا يشوبه إمكان ولا
__________________
(١) انظر : شفاء العليل لابن قيم (ص ١٢٢ ، ١٢٣) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٢٠٧ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢٢٢) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ٨٧ ، ٩٧) ، ومنهاج السنة لابن تيمية (٣ / ٢٠٩) ، المواقف للإيجي (٢ / ١١٤ ، ١١٦ ، ١١٩ ، ١٢٥ ، ١٢٩) ، والغنية في أصول الدين (ص ١١٩ ، ١٢٤).