وإما تقديرا يجوز أن يوجد عليه تصورا ، قيل : إن الباري سبحانه بجهة من العالم فيكون لا محالة محيطا بكل العالم ، وإلا فيخلو عن ذاته طرف من جهات الفوق وعندهم هو فوق العالم بأسره فهو خلف فيلزم عليه فوقا بالنسبة إلى من هو على الأرض على موازاة القطب الشمالي وتحت بالنسبة إلى من هو عليها على موازاة القطب الجنوبي بل يكون بعض منه فوقا وبعض منه تحتا وذلك محال ، وإما تعلق القلوب بالسماء ورفع الأيدي إليها والمعراج إليها فمقابل بتعلق الرءوس بالأرض وضع الأيدي عليها والنزول إليها بل العرش قبلة الدعاء والأرض مسجد الصلاة والكعبة وجهة الوجه وموضع السجود قبلة العين وأقرب ما يكون العبد من الرب إذا كان في السجود واسجد واقترب.
ومما أوجب التشبيه : قيام الحوادث بذاته سبحانه وقد ذهبت الكرامية إلى جواز ذلك ومن مذهبهم إنما يحدث من المحدثات فإنما يحدث بإحداث الباري سبحانه ، والإحداث عبارة عن صفات تحدث في ذاته من إرادة لتخصيص الفعل بالوجود ، ومن أقوال مرتبة من حروف مثل قوله كن وأما سائر الأقوال كالإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهمالسلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام والأوامر والنواهي والتسمعات للمسموعات والتبصرات للمبصرات فتحدث في ذاته بقدرته الأزلية وليست هي من الإحداث في شيء [وعلى طريقة] إنما الإحداث في الخلق على مذهب أكثرهم قول وإرادة والقول هما صورتان هما حرفان وعلى طريقة محمد بن الهيصم الإحداث إرادة وإيثار وذلك مشروط بالقول شرعا وجوز بعضهم تعلق إحداث واحد بمحدثين إذا كانا من جنس واحد ، وأكثرهم على أن لكل محدث إحداثا فيحدث في ذاته لكل محدث خمس صفات إرادة وكاف ونون وتسمع وتبصر وقد أثبتوا مشيئة قديمة تتعلق بالحادث والمحدث والإحداث والخلق ثم قالوا هذه الحوادث لا تصير صفات لله تعالى وإنما هو خالق بخالقيته لا بخلق مريد بإرادته ، لا بإرادة قائل بقائليته وهي واجبة البقاء ويستحيل عدمها بعد وجودها في ذاتها (١).
وللمتكلمين عليه طريقان في الكلام أحدهما البرهان والثاني المناقضة في الإلزام.
أما البرهان فنقول لو قامت الحوادث بذات الباري سبحانه وتعالى لاتصف بها بعد أن لم يتصف ، ولو اتصف لتغير والتغير دليل الحدوث إذ لا بدّ من مغير وتحقيق المقدمة الأولى أن معنى قيام الأعراض بمحالها كونها أوصافا لها كالعلم إذا قام بجوهر
__________________
(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١١١).