فيَستنتِج من ذلك دستوراً عامّاً للمجتمع ليعمل به متىٰ راقه أن يأخذ حذراً عن سقوط الفرد أو تلاشي المجتمع ، فالسياسيّ يريد به الوقوف علىٰ مناهج الأُمم التي تقدّم بها الغابرون ، ومساقط الشهوات التي أسفّت بمعتنقيها إلىٰ هوّة البوار والضعة ، فغادَرتْهم كحديث أمس الدابر ، ويريد به البصيرة فيما سلفت به التجاريب الصحيحة في المضائق والمآزق الحرجة ، وافتراع عقبات كأداء ، فيتّخذ من ذلك كلّه برنامجاً صالحاً لرُقيّ أمّته ، وتقدّم بيئته.
والأديب يقتنص شوارد التاريخ ؛ لأنَّ ما يتحرّاه من تنسيق لفظه ، وفخامة معناه ، وما يجب أن يكون في شعره أو نثره ـ من محسِّنات الأسلوب ، ومقرِّبات المغزىٰ بإشارة أو استعارة ـ منوطٌ بالاطّلاع علىٰ أحوال الأُمم والوقوف علىٰ ما قصدوه من دقائق ورقائق.
وإذا عمّمنا التاريخ علىٰ مثل علم الرجال والطبقات ، فحاجة الفقيه إليه مسيسة في تصحيح الأسانيد ، وإتقان مدارك الفتاوىٰ ، وبه يظهر افتقار المحدِّث إليه في مزيد الوثوق برواياته ، علىٰ أنَّ لِفنِّ الحديث مواضيع متداخلة مع التاريخ ، كما يُروىٰ من قصص الأنبياء وتحليل تعاليمهم ؛ حيث يجب على المحدِّث المحاكمة بين ما يتلقّاه وما يسرده التاريخ ، أو التطبيق بينهما إن جاءا متّفقَين في بيان الحقيقة.
والمفسّر لا مُنتدح له من التوغّل في التاريخ عندما يقف علىٰ آيات كريمة توعز إلىٰ قصص الماضين وأحوالهم ؛ لضربٍ من الحكمة ، ونوعٍ من العِظَة ، وعلىٰ آيات أخرىٰ نزلت في شؤون خاصّة ، يفصِّلها التاريخ تفصيلاً.
والباحث إذا دقّق النظرة في أيّ علم يجد أنّ له مسيساً بالتاريخ لا يتمّ لصاحبه غايته المتوخّاة إلّا به.
فالتاريخ إذاً ضالّة
العالِم ، وطَلِبة المتفنّن ، وبُغية الباحث ، وأُمنيّة أهل الدين ومقصد الساسة ، وغرض الأديب. والقول الفصل : إنَّه مأرب المجتمع البشريّ أجمع ،