وقد حكينا كلامه على وجهه وبألفاظه ، وهو دالّ على أنّ تعذّر مثل القرآن على العرب يجري مجرى تعذّر الشّعر الفصيح على المفحم. والشّعر الفصيح ليس يتعذّر على المفحم لأنّه مستحيل منه نظمه وترتيبه ، حسب ما ذكرناه.
فإن كان ما يقال في تعذّر الشّعر كقوله (١) هو في تعذّر القرآن فيجب بأن يصرّح بأنّ القرآن إنّما تعذّر لفقد العلم بمثل فصاحته ونظمه ، كما صرّح القوم الّذين رددنا عليهم ، ولا يعبّر عن ذلك بعبارة تدلّ على خلافه. اللهمّ إلّا أن يكون يعتقد أيضا أنّ الشّعر مستحيل من المفحم ، وهو غير قادر عليه. ويظنّ أنّه يجاب عن اعتراضه بتعذّر الشّعر بمثل هذا ؛ فذاك أسوأ لحاله ، وأشدّ لتخليطه! فكيف يكون الشّعر مستحيلا من المفحم ، وقد يعود المفحم شاعرا ، بعد أن كان مفحما. ولو كان ذلك مستحيلا لما صحّ أن يقدر عليه في حال ، كما لا يصحّ أن يقدر على الجواهر والألوان في حال.
ولو كان الشّعر غير مستحيل من المفحم ، لكنّه غير مقدور له لم ينفعه ذلك أيضا في تصحيح كلامه ؛ لأنّه لم يرض في القرآن بأن يقول : إنّه غير مقدور ، بل زعم أنّه يستحيل كاستحالة إحداث الأجسام منّا ، فكيف يحمل تعذّر الشّعر على تعذّر القرآن ويدّعي أنّ ما يعتلّ به في أحد الأمرين يعتلّ بمثله في الآخر ، وأحدهما مستحيل ، والآخر جائز وإن كان غير مقدور؟!
ولو قيل له في جواب اعتراضه : الشّعر إنّما يتعذّر على المفحم ـ لا من جهة أنّه يستحيل منه ـ بل لأنّه غير قادر عليه الآن ، وجائز أن يقدره الله تعالى عليه في المستقبل ، أليس ما كان يتمكّن من المقابلة بمثل ذلك في القرآن؟!
على أنّا قد بيّنّا قبل حكاية كلامه أنّ المفحم قادر على الشّعر ، وأنّ الشّعر ليس
__________________
(١) في الأصل : بقوله ، والظاهر ما أثبتناه.