بأكثر من حروف يتقدّم بعضها ويتأخّر بعض. والمفحم قادر على جميع ذلك ، وإنّما يتعذّر عليه الشّعر لفقد العلم بتقديم هذه الحروف وتأخيرها وضمّها وتفريقها ، كما يتعذّر على الأمّيّ الكتابة لذلك ، لا لأنّه ليس بقادر على الحركات والاعتمادات (١).
وممّا يكشف عمّا ذكرناه [أنّ] الشّعر لو كان يتعذّر على المفحم ، لأنّه [غير] قادر عليه ، لم يتأتّ منه على سبيل الحكاية. وفي تأتّيه منه ـ إذا كان حاكيا ـ دليل على أنّه قادر. وإنّما تعذّر ابتداؤه له لفقد العلم ؛ لأنّ ما يتعذّر لارتفاع القدرة عليه لا يقع على وجه من الوجوه ، ما دامت مرتفعة ، ألا ترى أنّ من حلّ إحدى يديه عجز عن الحركة ، لا يقع منه تحريك هذه اليد ابتداء ولا احتذاء! (٢)
وبعد ، فهذا القول يؤدّي إلى أنّ جميع الصّنائع والأفعال الواقعة على الوجوه المختلفة غير مقدورة لمن تعذّرت عليه. ولو صحّ ذلك لارتفع الدّليل على إثبات العالم عالما ؛ لأنّا إنّما نستدلّ على إثبات العالم عالما للكتابة وما شاكلها من الأفعال المحكيّة عن (٣) بعض الفاعلين دون بعض مع اشتراك مع تعذّر عليه ومن
__________________
(١) قال المصنّف رحمهالله في كتابه الذخيرة / ٤٠١ ـ ٤٠٢ : «وهذا الكلام يدلّ منه على أنّ تعذّر معارضة القرآن هو جهة تعذّر الشعر على المفحم. والشعر لا يتعذّر من المفحم ، لا لأنّه مستحيل منه ، ولا لفقد قدرته عليه. وإنّما يتعذّر لفقد علمه بكيفيّة نظمه وترتيبه. فإن ارتكب أنّ الشعر مستحيل من المفحم وهو قادر عليه فحش خطأه ، وقيل له : قد يعود المفحم شاعرا ، ولو كان الشعر يستحيل منه لما جاز أن يقدر في حال من الأحوال عليه. وقد بيّنا أنّ الشعر ليس بأكثر من حروف تقدّم بعضها على بعض. وجنس الحروف مقدور لكلّ قادر على الكلام من مفحم وغيره ، فكيف يكون ذلك مستحيلا؟! وإنّما أوجب تعذّر الشّعر على المفحم فقد العلم بغير شبهة».
(٢) يقال احتديت به ، إذا اقتديت به في أموره.
(٣) في الأصل : المحكمة على ، والمناسب ما أثبتناه.