كلاما هو دونه في الرّتبة هذا الفضل ولا حصل بينهما هذا القدر ، وإن كان أحدهما من الفصاحة في الذّروة العليا ، والآخر في المنزلة السّفلى.
هذا إذا فرضنا بطلان الصّرفة ، ونسبنا تعذّر المعارضة على العرب إلى فرط فصاحة القرآن ، فكيف يمكن مع ما كشفناه أن يدّعى أنّ ما بين القرآن وبين كلام فصحاء العرب من البعد في الفصاحة دون ما بين شعر الطائبيّين وشعر امرئ القيس؟!
وما أوردناه من الاعتبار يوجب أن يكون بينهما أكثر ممّا بين شعر المتقدّمين والمحدثين بأضعاف كثيرة. وأنّ ذلك لو لم يكن على ما قلنا ، وكان على ما توهّمه الخصم ، لوقعت المعارضة لا محالة. كما أنّ امرأ القيس لو تحدّى أحد الطائبيّين ببيت من عرض شعره لسارع إلى معارضته ولم يتخلّف عنها. وهذا ممّا لا إشكال في مثله.
* * *
وبعد ، فإنّ من يدّعي أنّ خرق العادة بالقرآن إنّما كان من جهة فصاحته دون غيرها ، لا يقدم على أن يقول : إنّ بين شيء من الكلام الفصيح وإن تقدّم ، وبين غيره من الفصيح وإن تأخّر ، من البعد أكثر ممّا بين القرآن وفصيح كلام العرب ؛ لأنّه كالمنافي لأصله ، والمنافر لقوله.
وإذا استحسن ارتكابه مستحسن ، معتصما به ممّا تقدّم من إلزامنا ، كان ما أوردناه مبطلا لقوله ومكذّبا لظنّه. وهذا واضح بحمد الله.
فإن قال : ما الّذي تريدون بقولكم : إنّهم صرفوا عن المعارضة؟ أتريدون أنّهم أعجزوا عنها ، أم سلبوا العلوم الّتي لا تتأتّى إلّا بها ، أم شغلوا عنها ، وصرفت هممهم ودواعيهم عن تعاطيها؟
فإن أردتم العجز فهو واضح الفساد ؛ لأنّ العجز لا يختصّ بكلام دون كلام.