ولو كانوا أعجزوا عن الكلام المساوي للقرآن في الفصاحة ، لم يتأتّ منهم شيء من الكلام في الفصاحة ، ويماثل في طريقة النّظم ، ونحن نفعل ذلك.
[قيل له] : أمّا ما يدلّ على أنّ التحدّي كان بالفصاحة والنّظم معا أنّا رأينا النّبيّ صلىاللهعليهوآله أرسل التّحدّي إرسالا ، وأطلقه إطلاقا من غير تخصيص يحصره ، أو استثناء يقصره ؛ فقال صلىاللهعليهوآله مخبرا عن ربّه تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).
وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).
فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدّي وغرضه فيه ، وهل أراد مثله في الفصاحة دون النّظم ، أو فيهما معا ، أو في غيرهما؟ فعل من قد سبق الفهم إلى قلبه وزال الرّيب عنه ؛ لأنّهم لو ارتابوا لسألوا ، ولو شكّوا لاستفهموا. ولم يجر ذلك على هذا إلّا والتحدّي واقع بحسب عهدهم وعادتهم. وقد علمنا أنّ عاداتهم جارية في التحدّي باعتبار طريقة النّظم مع الفصاحة ، ولهذا لا يتحدّى الشّاعر الخطيب الذي لا يتمكّن من الخطابة. وإنّما يتحدّى الشّاعر الشّاعر والخطيب الخطيب. ووجدنا أكثرهم لا يقنع بأن يعارض القصيدة من الشّعر بقصيدة منه حتّى يجعلها من جنس عروضها ، كأنّها إن كانت من الطويل جعلها من الطويل ، وإن كانت من البسيط جعلها من البسيط. ثمّ لا يرضيه ذلك حتّى يساوي بينهما في القافية ، ثمّ في حركة القافية.
وعلى هذا المذهب يجري التناقض (٣) بين الشّعر ، كمناقضة
__________________
(١) سورة الإسراء : ٨٨.
(٢) سورة هود : ١٣.
(٣) قال الخليل بن أحمد في كتاب العين : النّقض : إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء. والمناقضة في الأشياء ، نحو الشعر ، كشاعر ينقض قصيدة أخرى بغيرها. ومن هذا نقائض جرير والفرزدق.