قال أبو محمد : وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهرا ليس جسما ولا عرضا ، وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل. وحدّ هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه لا يتحرك ، ولا له مكان ولا له طول ولا عرض ولا عمق ولا يتجزأ.
وحدّه بعض من ينتمي إلى الكلام : بأنه واحد بذاته لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا يتجزأ. وقالوا إنه يتحرك وله مكان وأنه قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضا واحدا فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة.
قال أبو محمد : وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان ، أول ذلك أنها كلها دعاوى مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلا لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحس يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعي ما شاء ، وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد.
وأما نحن فنقول : إنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهرا حاملا لأعراضه وأعراضا محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعرّي أحدهما عن الآخر ، فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هاتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوهر ، وقالوا إنه ليس جسما ولا عرضا ، فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال : المراد بذلك الجسم متعريا من جميع أعراضه وأبعاده. وبعضهم قال : المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه يكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره. وزاد بعضهم في الجوهر الخلاء والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعني بالخلاء المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود.
قال أبو محمد : وهذه أقوال ليس شيء منها لمن ينتمي إلا الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين وللدهرية وللنصارى في تسميتهم الباري تعالى جوهرا فإنهم سموه في أمانيهم التي لا يصح عندهم دين لملكيّ ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا هاروني