قال أبو محمد : نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية ، هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات ، مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل ، وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ، ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم ، فهي منفعلة لكل ما ذكرنا ، وهذا يثبت أنها جسم يحمل الأعراض.
وقالوا أيضا : إن كل جسم كيفياته محسوسة ، وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس جسما ، وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل ، وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسما.
قال أبو محمد : وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة ، لأن قولهم ما لا تحسّ كيفياته فليس جسما دعوى كاذبة بلا برهان أصلا ، لا عقلي ولا حسي ، وما كان هكذا فهو قول ساقط مطرح لا يعجز عن مثله أحد ، ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى ، وهو أن الفلك جسم ، وكيفياته غير محسوسة ، وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقوع خطّ البصر عليها ، وبرهان ذلك تبدّل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له ، فمرة تراه أبيض صافي البياض ، ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة ، فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه ، فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المحسة فقط كالهواء ، ومنها النار في عنصرها لا تقع عليها شيء من الحواس أصلا بوجه من الوجوه ، وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله ، فوجب من هذا أن الجسم كلما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس ، وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حسّ البتة إلا النفس ولا حساس إلا هي ، فهي حساسة لا محسوسة ، ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوسا ، فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين.
وقالوا : إن كل جسم فإنه لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا تحت بعضها فالنفس ليست جسما.
قال أبو محمد : وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفا لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء وكالنار في عنصرها وأن ما عدم الرائحة لم يدرك