وإن كان مسلما فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته ، وإما معتزلي يكفر سائر فرق ملته ، وإما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته ، وإما مرجئي لا يرضي عن سائر فرق ملته ، وإما سنّي ينافر سائر فرق ملته ، قد استوى في ذلك العامي المقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل.
وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدّعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ، ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا ، إما حنفي يجادل عن حنيفيته ، وإما ما لكي يقاتل عن مالكيته ، وإما شافعي يناضل عن شافعيته ، وإما حنبلي يضارب عن حنبليته ، وإما ظاهري يحارب عن ظاهريته ، وإما متحير يستدل ، فهنالك جاء التجاذب والتجاذب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة ، وكل امرئ ممن ذكرنا يزري على الآخرين ، وكلهم يدعي أنه قد أشرف على الحقيقة.
وهكذا القائلون بالدهر أيضا متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم ، فمن موجب أن العالم لم يزل وأن لا فاعل له ، ومن مكذب له موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلا لم يزل ، ومن موجب أزلية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدث ، ومن موجب أزلية الفاعل ، وحدوث العالم ، ومبطل النبوات كلها ، كما اختلف سائر أهل النحل ولا فرق. قالوا : فصح أن جميعهم إما متبع للذي نشأ عليه ، والنحلة التي تربي عليها ، وإما متبع لهواه قد يخيل له أنه الحق. فهم على ما ذكرنا دون تحقيق.
قالوا : فلو كان البرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ، ولبان على طول الأيام وكرور الأزمان ، ومرور الدهور ، وتداول الأجيال له ، وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم ، وإفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس ، واستنفاد وسعهم وجهدهم أين الحق ، فيرتفع الإشكال ، بل الأمر واقف بحسبه أو متزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق.
قالوا : وأيضا فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل ، المتفنن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج ، المستنفد لعمره في طلب الحقائق ، المؤثر للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاه ، المستفرغ لقوته في ذلك ، النافر عن التقليد ، يعتقد مقالة ما ويناظر عنها ، ويحاجي دونها ، ويدفع أمامها ، ويعادي من خالفها ، مجدّا في ذلك موقنا نصرته وخطأ من خالفه منافرا له مضللا أو مكفرا ، فيبقى كذلك الدهر الطويل والأعوام الجمة ، ثم تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ، ولأهل تلك المقالة التي كان يدين بصحتها ، وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في