قال أبو محمد : فهذه أصولهم ومعاقدهم ، وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قالوا : وجدنا الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن دلائل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها ، وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر ، على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على التبيان والتخيل والشغب ، فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم.
قالوا : فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان لما أشكل على أحد ، ولم يختلف الناس في ذلك كما يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداهة عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح.
قالوا : ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ، ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب.
قالوا : فلما بطل هذا صح أن كل طائفة فإنما تتبع ما نشأت عليه. وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين قالوا : هذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه.
وقالوا أيضا : إنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة ، وبأنهم قد أشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزوه من الشغب والإقناع ، ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وأفنوا فيه دهرهم ، ورسخوا فيه ، وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلائل الصحاح وميزوها من الفاسدة ، وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطل بالحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جميع هاتين الطائفتين فلسفيهم وكلاميهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافا. فمن يهودي يموت على يهوديته ، ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه ، ومجوسي يستميت على مجوسيته ، ومسلم يستقتل في إسلامه ، ومناني يستهلك في مانويته ، ودهري ينقطع في دهريته ، فقد استوى العاميّ المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتكلم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضا كذلك سواء سواء ، فإن كان يهوديا فإما رباني يتقد غيظا على سائر فرق دينه ، وإما صابئي يلعن سائر فرق دينه ، وإما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه ، وإما سامري يبرأ من سائر فرق دينه.
وإن كان نصرانيا فإما ملكي يتهالك غيظا على سائر فرق دينه ، وإما نسطوري يتقد أسفا على سائر فرق دينه ، وإما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه.