والسلام حق ، ثم لم تغلّب قولا من أقوال أهل القبلة على قول ، بل قالوا إن منها قولا هو الحق بلا شك ، إلا أنه غير بين إلى أحد ، ولا ظاهر. وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما ثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة ، وقالت لا ندري ما نعتقد ، ولا يمكننا أخذ مقالة لم تصح عندنا دون غيرها ، فنكون مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا ، لكنا لا ننكر شيئا من ذلك ولا نثبته : وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وإمراح النفوس في الشهوات كيف مالت إليه بطبائعها.
وطائفة قالت : على المرء فرض بموجب العقل ألا يكون سدى بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين يزجر به عن الظلم والقبائح ، وقالوا : من لا دين له فهو غير مأمون في هذا العالم على الإفساد وقتل النفوس غيلة وجهرا ، وأخذ الأموال خيانة وغصبا ، والتعدي على الفروج تحيلا وعلانية ، وفي هذا هلاك العالم بأسره ، وفساد البنية ، وانحلال؟؟ النظام؟؟ وبطلان العلوم والفضائل كلها التي تقتضي العلوم بلزومها ، وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرر منه واجتنابه.
قالوا : فمن لا دين له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منه وتعجيل استكفاف ضرره لأنه كالأفعى والعقرب ، أو أضر منهما.
ثم انقسم هؤلاء قسمين : فطائفة قالت : فإذا الأمر كذلك فالواجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه ، لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشأته بيقين ، وهو الذين أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عن ما رتبه الله تعالى فيه وابتدأه عليه ، أي دين كان. وهذا كان قول إسماعيل ابن القراد ، وكان يقول : من يخرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عزوجل المتعبد له بذلك الدين ، وكان يقول بالملة الكلية ، ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفا.
وقالت طائفة : لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ، ولا حجة له فيه ، لكن الواجب على كل أحد أن يلزمه ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحد ، ولا يزني ولا يليط ولا يبغي ولا يبغى به ، ولا يسعى في إفساد حرمة أحد ، ولا يسرق ولا يغصب ، ولا يظلم ، ولا يجور ولا يجني ولا يغش ولا ينم ، ولا يسفه ولا يضرب أحدا ولا يستطيل عليه ، ولكن يرحم الناس ، ويتصدق ، ويؤدي الأمانة ، ويؤمن الناس شره ، ويعين المظلوم ويمنع منه. فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ، ويوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره.