ببداية عقولهم فقول غير مطرد ، والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ، ولا إلى تقليد يتهالك في نصره أو إبطاله ، وكذلك في الحساب ، حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستهلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتيّة ولاهوتيّة ، ثم منهم من يقول إن تلك الطبيعتين صارتا شيئا واحدا ، وصار اللّاهوت ناسوتا تامّا محدثا مخلوقا ، وصار الناسوت إلها تامّا خالقا غير مخلوق ، ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج العرض بالجوهر ، ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة ، وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته. وكما تهالكت المنانية على أن الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرّحى ، وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان. وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب ، وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعا من عين واحدة في المشرق ، وهذا كذب يدرك بالحواس. وكما تهالكت المجوس على أن الولادة من إنسان ونهر وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض. وكتهالك جميع العامة على أن السماء مستوية كالصحيفة لا مقببة مكوّرة ، وأن الأرض كذلك أيضا ، وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبة بالعيان. وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممّن يدعي العلم والتوفيق فيه إلى أن النار لا حر فيها ، وأن الثلج لا برد فيه ، وأن الزجاج والحصا لها طعم ورائحة ، وأن الخمر لا يسكر ، وأن هاهنا أحوالا لا معدومة ولا موجودة ، ولا هي حق ولا هي باطل ، ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ، وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته ، وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وهم أحد ، ولو لا أننا شهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا أن من له مسكة عقل ينطق لسانه بهذا الجنون. وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذانك المسميين لا هو الآخر ولا هو غيره ، وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق.
وأما الحساب فقد اختلف أهله في أشياء من التعديل ، ومن قطع الكواكب ، وهل الحركة لها أو لأفلاكها. وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطأ كبير من أهل الحساب في جميع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافا ظاهرا حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل ، وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس. فظهر بطلان تمويههم وتشبيههم جملة ، والحمد لله رب العالمين.