كل مختلف فيه بأكثر من أن يقال له سل عن مسألة مسألة نبين لك برهانها بحول الله تعالى وقوته.
ثم نقول لمن قال من هؤلاء إن هاهنا قولا صحيحا واحدا لا شك فيه : أخبرونا من أين عرفت ذلك؟ ولعل الأمر كما يقول من قال إن جميع الأقوال كلها باطل ، أو كما قال من قال إن جميع الأقوال كلها حق؟ فإن قال : لا لأنها لو كانت حقا كلها لكان محالا ممتنعا ، لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معا ، ولو كان جميعها باطلا لكان كذلك أيضا سواء سواء ، وهذا محال ممتنع لأن فيه أيضا إثبات الشيء وإبطاله معا ، وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك ، وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك ، فإذ قد أبطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقّا بعينه وباطلا بعينه. قلنا له : صدقت وإذ الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به أن في تلك الأقوال قولا صحيحا بلا شك ، فيه تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح ، لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل والحواس ردّا صحيحا ، وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل والحواس ، وهذا بيّن والحمد لله رب العالمين.
وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض ، لأنه يبطل الحق والباطل معا ، وبالله تعالى التوفيق.
أما قولهم : لو كان هاهنا قول صحيح لما أشكل على أحد ، ولا اختلف فيه ، كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ، ولا في الحساب ، فإن هذا قول فاسد لأن إشكال الشيء على من أشكل عليه إنما معناه أنه يجهل حقيقة ذلك الشيء فقط ، وليس جهل من جهل حجة على من علم ، برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمره الجهل والبلادة ، ثم يتزيد الناس في الفهم فتفهم طائفة شيئا لا تفهمه المجانين ، وتفهم طائفة أخرى ما لا يفهمه هؤلاء ، وهكذا إلى أرفع مراتب العلم ، فكل ما اختلف فيه فقد وقف على الحقيقة فيه من فهمه ، وإن كان خفي على غيره ، وهذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم. وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل ، وهو إما قصور الفهم والبلادة وإما كسل عن تقصي البرهان ، وإما لإلف أو نفار بعد بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها ، وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه ، فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين ، فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم : كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه