إبطاله ورومهم أن ينشدوا بهذا جميع البراهين ، فليس كما ظنوا لأن كل منتقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يكون انتقل من خطأ إلى خطأ ، أو من خطأ إلى صواب ، أو من صواب إلى خطأ ، وأي ذلك كان فإنما أتى في الانتقالين الاثنين اللذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلبا صحيحا ، بل عاجزا عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل. وأما الانتقال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحدّ وبحث.
وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيرا فيرى الإنسان شخصا من بعيد فيظنه فلانا ، ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن ، وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجدّا ثم يتبين أنه ليس هو الذي ظن ، وهكذا في الذوق أيضا ، وقد يعرض هذا في الحساب فقد يختلف الحاسبون في جميع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم إن المجتمع من هذه الأعداد كذا وكذا ، ويخالفه غيره في ذلك حتى إذا بحثوا بحثا صحيحا صحّ الأمر عندهم.
وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه ، يطلب الشيء من متاعه طلب تردد المرة بعد المرة فلا يجده ولا يقع عليه ، وهو بين يديه ونصب عينيه ، ثم يجده في أقرب مكان من بصره ، وقد يكتب الإنسان مستمليا أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبدا ، ولا ألا يصح وجود الإنسان شيئا افتقده أبدا ، ولا ألا يصح جميع الأعداد أبدا ، ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبدا ، لإمكان وجود الخطأ في بعض ذلك ، لكن التثبت الصحيح يليح الحق من الباطل. وهكذا لكل شيء أخطأ فيه أحد من الناس. لا بد من برهان يليح الحقّ فيه من الباطل. ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشا صحيحا فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم بها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد ، فبطل تعلقهم بمن رجع عن مذهب إلى مذهب ، ولم يحصلوا إلا على أن قالوا : إنا نرى قوما يخطئون ، فقلنا لهم : نعم ويصيب آخرون.
ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد : فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم إن مذهبكم هكذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة ، وهو في ظنكم صحيح؟ فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لم نصححه ولا صححه برهان.