قال أبو محمد : وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوا به من اختلاف المدعين الفلسفة والمنتحلين للكلام في مذاهبهم ، وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضا في اختيارهم ، لأننا لم ندّع أن طباع الناس سليمة من الفساد ، لكنا نقول : إن الغالب على طبائع الناس الفساد ، وإن المنصف لنفسه أولا ثم لخصمه ثانيا الطالب للبرهان على حقيقة العارف به قليل ، برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم دليل على كثرة الخطأ منهم ، وقد أوضحنا أن وجود الخطأ يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد ، وليس اختلافهم دليلا على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ، ولا على امتناع وجود السيل إلى معرفة الحق. وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بأن لا يخلو من حقق شيئا من الديانات والمقالات والآراء من أن يكون صحّ له بالحواس أو ببعضها ، أو ببديهة العقل وضرورته ، أو بدليل من الأدلة غير هذين ، وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه ، وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم ، فهذا كلّه مكرّر قد مضى الكلام فيه ، وقد أريناهم أنه قد يختلف الناس فيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو؟ وفي الصوت يسمعونه بينهم فيم هو؟ ويختلفون فيه ، وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده.
ثم نقول لهم : إن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ، ثم ينتج براهين راجعة من قرب أو من بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس ، فما صححته هذه البراهين فهو حقّ ، وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح. ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : قولكم هذا بأي شيء علمتموه؟ أبا لعقل أو بالحواس أو بدليل عنهما؟ فإن علمتموه بالحواس أو العقل فكيف خولفتم فيه؟ وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بم عرفتموه؟ أبا لحواس أم بالعقول أم بدليل آخر؟ وهكذا أبدا ، وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد. وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ، ومن صحح شيئا لزمه ، ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا ، وقد أجبنا عنه بما دفعه عنّا ، وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم : نسألهم عن علمهم بم يدعون صحته أتعلمونه أم لا؟ فإن قالوا : لا نعلمه بطل قولهم إذ أقروا أنهم لا يعلمونه ، وإن قالوا بل نعلمه سألناهم : أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم؟ وهكذا أبدا فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمّر ، في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال ، وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة.