قال أبو محمد : وهذا السؤال نفسه مردود عليهم كما هو ، ونسألهم : أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا؟ فإن قالوا لا ، أقروا بأنهم لا يعلمون صحته ، وفي هذا إبطاله وأنه إنما هو ظن لا حقيقة ، وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم؟ وهكذا أبدا. إلا أن هذا السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ، ومن صحّح شيئا لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ، ونعقل أن لنا عقلا بعقلنا ذلك نفسه ، وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلّها لا من يقول بتكافؤ الأدلة ، فبطل كل ما موّهوا به ، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد : ثم نقول لهم : أنتم قد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين صحاح ، فببراهين صحاح أيضا صح ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهبا صحيحا ظاهر الصحة؟ فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئ وأنت تظن أنك مصيب ، لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك : أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ؟ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات ، وإن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك ، وأنت تظن أنك سالم الدماغ؟ فإن قال : لا ، لأن هاهنا براهين تصحح أني سالم الذهن ، قيل له : هاهنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد ، فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد : فإذ قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحة لأن في هذا أن يكون الشيء باطلا حقا معا ، لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس ، فلو كان كلا الأمرين باطلا لبطل النفي في الشيء وإثباته معا ، وإذا بطل إثباته صح نفيه ، وإذا بطل نفيه صح إثباته. فكان يلزم من هذا أيضا أن يكون الشيء حقّا باطلا معا فثبت بيقين أن في الأقوال حقا وباطلا. وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة يعرف أن بين الحق والباطل فرقا موجودا وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحقّ من الباطل وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : فإنكم تحيلون على براهين تقولون إن ذكرها جملة لا يمكن ، وتأمرون بالجدّ في طلبها ، فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية ، والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا؟ قلنا لهم : الفرق بيننا وبينهم برهانان واضحان أحدهما : أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن تعرفوا براهينهم ، ونحن لا نفعل هذا ، بل ندعو