من تلك المسافة وعلمت النفس بذلك توهم من لم يحقق أن هذه رؤية ، وليست كذلك ، وتوهموا أيضا أنهم يرون السواد إذا كان السواد ممازجا لحمرة أو لغبرة أو لخضرة أو لصفرة أو لزرقة فإذا كان هذا هكذا فإن البصر لا يرى ما في ذلك السطح من هذه الألوان على حسب قوّتها وضعفها فقط فيتوهمون من ذلك أنهم رأوا السواد ، ويتوهمون أيضا أنهم يرونه لأنه قالوا : نحن نميز الأسود البراق البصيص واللمعان من الأسود الأكدر الغليظ.
قال أبو محمد : وهذا مكان ينبغي أن نتثبت فيه فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن الإملاس هي استواء أجزاء السطح ، والخشونة هي تباين أجزاء السطح ، وقد نجد أملس لمّاعا وأملس كدرا ، فإذ ذلك كذلك فالبصيص واللمعان شيء آخر غير استواء أجزاء السطح وإذ هو كذلك وهو مرئيّ فالبصيص بلا شك لون آخر محمول في الملون بالحمرة أو السفرة أو سائر الألوان وفيما عري من جميع الألوان سواء ، فإذا قلنا أسود لماع فإنما نريد أنه ليس فيه من الألوان إلا اللمعان فقط وهو لون صحيح ، وقد عري من الحمرة من الصفرة ومن البياض والخضرة والزرقة ومما تولد من امتزاج هذه الألوان. ولعل الكدرة أيضا لون آخر مرئيّ كاللمعان ، وهي أيضا غير سائر الألوان ، فهذا ما لا يوجد ما يمنع منه ، بل الدليل يثبت أن الكدرة أيضا لون وهو وقوع البصر عليها ، وهو لا يقع إلا على لون ومن أبي من هذا كلفناه أن يحدّ لنا اللمعان والكدرة فإنه لا يقدر على شيء أصلا غير ما قلنا. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : بل فإنا نرى الثوب الأسود ونستبين نسيج خيوطه ونتوء ما نتأ منها وانخفاض ما انخفض فلو لا أنه يرى ما علم ذلك كله. فالجواب وبالله تعالى التوفيق : أننا قد علمنا أن خطوط البصر تخرج من الناظر ولها مساحة ما وبعضها أطول من بعض بلا شك لأن الخطوط الخارجة من البصر إلى السماء أطول من الخطوط الخارجة من البصر إلى الجليس لك بلا شك فلما خرجت خطوط البصر إلى الثوب المذكور انقطع تمادي بعضها فيما سامته وتمادى بعضها إلى أن انقطع فيما انخفض منه علمنا أن خطوط بصرنا تمادي بعضها أكثر من تمادي البعض فبالحس علمنا هذا لأن بصرنا وقع على لون أصلا ، وأيضا فإن النور هو اللون الذي طبعه بسط قوة الناظر واستخراج قوى البصر حتى أنه إذا وافق ناظرا ضعيف البنية بطبعه أو بعرض اجتلب جميعه واستلبه كله ، أو اقتطفه ، فعلى قدر قوة النور في اللون المرئيّ وضعفه فيه يكون وقوع البصر عليه ، هذا أمر مشاهد بالعيان ، فكلما قل النور في اللون كان وقوع البصر عليه أضعف وكانت الرؤية له أقل حتى إذا عدم النور جملة ولم يبق منه شيء فقد بطل بالضرورة أن