كصبور وشكور في عدم دخول التاء ؛ وقال ابن جنّي في كتابه التمام : هي فعيل ، ولو كان فعولا لقيل بغو ، كما قيل هو نهو عن المنكر ، ثم قيل هي فعيل بمعنى فاعل ، فهي كقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) [الأعراف] وقال الأخفش : هي مثل «ملحفة جديد» ، فجعلها بمعنى مفعول. وقيل إنما لم يقل بغيّة مراعاة لبقية رؤوس الآيات.
فإن قيل : ما كان حزن مريم في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣) ألفقد الطعام والشراب حتى تسلّت بالسّريّ والرّطب ، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟
قلنا : كان حزنها لمجموع الأمرين ، وهو ما ذكرتم ، وجدب مكانها الذي ولدت فيه ، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهّر به ؛ وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء ، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن. أما دفع الجدب فظاهر ، وأما دفع حزن التهمة ، فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء ، وأن الله تعالى قد خصّها بأمور إلهية خارجة عن العادة ، خارقة لها ؛ فتبيّن لهم أنّ ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها ، ولا بعيد في قدرة الله تعالى ، المخرج في لحظة واحدة ، الرّطب الجني من النخلة اليابسة ، والمجري للماء بغتة ، في مكان لم يعهد فيه.
فإن قيل : لم أمرها جبريل (ع) إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت ، في قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) وذلك خلف في النذر؟
قلنا : إنّما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها ، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يتدرّج فيه الكفّ عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها ، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس ، وإذا كان تمام نذرها كما ورد في قوله تعالى : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.
فإن قيل : لم قال تعالى (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩) وكل أحد كان في المهد صبيا؟
قلنا : كان هنا زائدة ، وصبيا منصوب