المثل ليبين انه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل فيها. وإنما سمى الله تعالى الكافر ميتا لأنه لا ينتفع بحياته (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وجه التشبيه بالكافر ان معناه : زيّن لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه ، فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ) أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر (مُجْرِمِيها) وجعلنا ذا المكر من المجرمين ، كما جعلنا ذا النور من المؤمنين ، فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك الا ان أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم ، وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم وانما خص أكابر المجرمين بذلك دون الاصاغر لأنه اليق بالاقتدار على الجميع ، لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك اجدر ، واللام في قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) لام العاقبة ، وتسمى لام الصيرورة كما في قوله سبحانه : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) لأن عقاب ذلك يحل بهم.
١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة من عند الله تعالى تدلّ على توحيده وصدق نبيّه (ص) (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نصدق بها (حَتَّى نُؤْتى) أي نعطى آية معجزة (مِثْلَ ما أُوتِيَ) أي أعطي (رُسُلُ اللهِ) حسدا منهم للنبي (ص) ثم اخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) انه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لرسالاته ، ويتعلق مصالح الخلق ببعثه ، وانه يعلم من يقوم بأعباء الرسالة ومن لا يقوم بها ، ثم توعدهم سبحانه فقال (سَيُصِيبُ) أي سينال (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي انقطعوا إلى الكفر وأقدموا عليه (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا ، أي جزاء على مكرهم.
١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) إلى الثواب وطريق الجنة (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) في الدنيا (لِلْإِسْلامِ) بأن يثبت عزمه عليه ، ويقوي دواعيه على التمسك به ، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) يعني ومن يرد أن يضله عن ثوابه وكرامته يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا عقوبة له على ترك الإيمان من غير ان يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان ، وسالبا إياه القدرة عليه (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) معناه : كأنه قد كلف ان يصعد إلى السماء اذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه ، أو كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام والحكمة (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي العذاب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وفي هذا دلالة على ان الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر ، ووجه التشبيه في قوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) : انه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك ، وان كل ذلك على وجه الإستحقاق.
١٢٦ ـ ١٢٧ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) أي طريق ربك وهو الإسلام (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيناها وميّزناها (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكرون ، خصّ المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج كما قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (لَهُمْ دارُ) (السَّلامِ) أي للذين تذكروا وتدبروا وعرفوا الحق وتبعوه دار السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة وبلية مما يلقاه أهل النار (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم اليها لا محالة (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم ، ودفع المضار عنهم وقيل : وليهم : ناصرهم على أعدائهم وقيل : يتولاهم في الدنيا ، بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات.