قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا أم طويلا ، ذكرا أم أنثى (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي فنعم المقدرون نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأنا قد خلقنا الخلق وأنا نعيدهم (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) للعباد تكفتهم (أَحْياءً) على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم (وَأَمْواتاً) في بطنها ، أي تحوزهم وتضمهم عن قتادة ومجاهد والشعبي قال بنان : خرجنا في جنازة مع الشعبي فنظر إلى الجنازة فقال هذه كفات الأموات ثم نظر إلى البيوت فقال هذه كفات الأحياء (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي جبالا ثابتة عالية (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) وجعلنا لكم سقيا من الماء العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النعم وأنها من جهة الله ، وإنما كرّر لأنه عدّد النعم فذكره عند كل نعمة فلا يعدّ ذلك تكرارا ، وقد تقدّم الوجه في التكرار في سورة الرحمن.
٢٩ ـ ٤٠ ـ ثم بيّن سبحانه ما يقال لهم جزاء على تكذيبهم فقال (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي تقول لهم الخزنة : اذهبوا وسيروا إلى النار التي كنتم تجحدونها وتكذبون بها ، ولا تعترفون بصحتها في الدنيا ؛ والانطلاق : الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه فقال (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي نار لها ثلاث شعب ، هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر : شعبة تكون فوقه ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، وسمي الدخان ظلا كما قال : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) ، أي من الدخان الآخذ بالأنفاس ، وقيل : يخرج من النار لسان فيحيط بالكافر كالسرادق فيتشعب ثلاث شعب فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب (لا ظَلِيلٍ) أي غير مانع من الأذى بستره عنه ، فظل هذا الدخان لا يغني الكفار شيئا من حرّ النار وهو قوله (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) واللهب : ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر ، يعني انهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب ، ثم وصف سبحانه النار فقال (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) وهو ما يتطاير من النار في الجهات (كَالْقَصْرِ) أي مثله في عظمه وتخويفه تتطاير على الكافرين من كل جهة نعوذ بالله منه ، وهو واحد القصور من البنيان. ثم شبّهه في لونه بالجمالات الصفر فقال (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي كأنها أينق سود لما يعتري سوادها من الصفرة. قال الفراء : لا ترى أسود من الإبل إلّا وهو مشرب صفرة ، ولذلك سمت العرب سود الإبل صفراء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بنار هذه صفتها (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) معناه : أنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به فكأنّهم لم ينطقوا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الخبر (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) والقضاء بين الخلق ، والانتصاف للمظلوم من الظالم ، وفصل القضاء يكون في الآخرة على ظاهر الأمر وباطنه بخلاف الدنيا لأن القاضي يحكم على ظاهر الأمر في الدنيا ولا يعرف البواطن (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) يعني مكذبي هذه الأمة مع مكذبي الأمم قبلها ، يجمع الله سبحانه الخلائق في يوم واحد وفي صعيد واحد (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ، وقيل : إن هذا توبيخ من الله تعالى للكفار وتقريع لهم ، وإظهار لعجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم ، وإنما هو على أنكم كنتم تعملون في دار الدنيا ما يغضبني ، فالآن عجزتم عن ذلك ، وحصلتم على وبال ما عملتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا.
٤١ ـ ٥٠ ـ ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الشرك والفواحش (فِي ظِلالٍ) من أشجار الجنة (وَعُيُونٍ) جارية بين أيديهم في غير أخدود لأن ذلك أمتع لهم بما يرونه من حسن مياهها وصفائها وقيل : عيون : أي ينابيع بما يجري خلال الأشجار (وَفَواكِهَ) جمع فاكهة وهي ثمار