لانقلاب علمه تعالى جهلاً.
وثالثاً : انّه تعالى كلّف هؤلاء ـ الذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون ـ بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه انّهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات. (١)
يلاحظ عليه : أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم انّ المأمور غير قادر على العمل ، ولذلك قلنا في محله إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، ولذلك يقول سبحانه : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ). (٢)
وأمّا الوجوه التي اعتمد عليها الرازي فموهون جداً ، وذلك انّ علمه الأزلي الذي اعتمد عليه في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.
وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان
______________________
١. تفسير الرازي : ٢ / ٤٢. |
٢. البقرة : ٢٨٦. |