مواضع ، من كونه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما مكسوا لحما. (١).
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان آية ثانية ، دالة على كمال قدرته ورأفته بعباده ، فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أى : ومن آياته الدالة على رحمته بكم ، أنه ـ سبحانه ـ خلق لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أى : من جنسكم في البشرية والإنسانية أزواجا.
قال الآلوسى : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم ـ عليهالسلام ـ متضمن لخلقهن من أنفسكم «فمن» للتبعيض والأنفس بمعناها الحقيقي ، ويجوز أن تكون «من» ابتدائية ، والأنفس مجاز عن الجنس ، أى : خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر ، قيل : وهو الأوفق لما بعد (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) بيان لعلة خلقهم على هذه الطريقة. أى : خلق لكم من جنسكم أزواجا ، لتسكنوا إليها ، ويميل بعضكم إلى بعض ، فإن الجنس إلى الجنس أميل ، والنوع إلى النوع أكثر ائتلافا وانسجاما (وَجَعَلَ) ـ سبحانه ـ (بَيْنَكُمْ) يا معشر الأزواج والزوجات (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أى : محبة ورأفة ، لم تكن بينكم قبل ذلك ، وإنما حدثت عن طريق الزواج الذي شرعه ـ سبحانه ـ بين الرجال والنساء ، والذي وصفه ـ تعالى ـ بهذا الوصف الدقيق ، في قوله ـ عزوجل ـ : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ).
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه لكم قبل ذلك (لَآياتٍ) عظيمة تهدى إلى الرشد وإلى الاعتبار (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بخلقه.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ آية ثالثة فقال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شيء ، خلقه للسموات والأرض بتلك الصورة البديعة (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أى : واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية ، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية .. إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات ، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التي يتكلم بها أفرادها ، ومئات اللهجات (وَأَلْوانِكُمْ) أى : ومن آياته كذلك ، اختلاف ألوانكم ، فهذا أبيض ، وهذا أسود ، وهذا أصفر ، وهذا أشقر .. مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء. بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما في خلقتهما وشكلهما.
__________________
(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٢١٩.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٣٠.