على الدهرية (١) في إنشاء الخلق لا من شيء ؛ فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه ؛ ولهذا وقعوا
__________________
ـ وقد يجاب عن هذا الدليل من زاوية أخرى بأنه لو تم لما وجد أحد من الممكنات ابتداء ؛ وذلك أن الممكن قبل وجوده متصف بصحة الوجود ، وهذه الصفة تقتضي تميزه حال عدمه ، والتميز حال العدم باطل على مقتضى هذا الدليل ، فهو كما يجري في المعدوم بعد الوجود يجري في المعدوم قبل الوجود ، إذن لو تم هذا الدليل لترتب عليه باطل وهو عدم وجود الممكنات ، فإذن هو باطل.
والحقيقة أن المسألة أبسط من هذا بكثير ، وهي جلية الوضوح في القرآن الكريم وسنة المصطفي صلىاللهعليهوسلم ؛ فالله ـ عزوجل ـ قادر على الإعادة من العدم ، قال الله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩].
ينظر : الصحاح للجوهري ، طبعة دار الكتب العلمية ، مادة (ب ع ث) (١ / ٤٠٧). تاج العروس للزبيدي ، طبعة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت مادة (ب ع ث) ، شرح المقاصد للتفتازاني مكتبة الكليات الأزهرية (٥ / ٨٢ ـ ١٠٦) أصول الدين لأبي منصور البغدادي ، طبعة دار الكتب العلمية (٢٣٥) ، أصول الدين للبزدوي ص (١٥٦). حاشية رمضان أفندي على العقائد (٢٢٦) ، نشر الطوالع للعلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده ، طبعة مكتبة العلوم العصرية ص (٣٤٧) (شرح المسايرة) للكمال بن الهمام (٩٨) وما بعدها.
(١) الدهر : بالفتح وسكون الهاء وفتحها ، هو الزمان الطويل الأمد الممدود ، وألف سنة كما في القاموس ؛ وقال الراغب : إنه اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، يعبر به عن كل مدة كثيرة ، بخلاف الزمان ؛ فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة.
وفي المغرب : الدهر والزمان واحد.
وأما الفقهاء فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو حنيفة رحمهالله : لا أدري ما الدهر وما معناه ؛ لأنه لفظ مجمل ، ولم يجد نصّا على المراد منه فتوقف فيه ، ثم اختلفوا فروى بشر عن أبي يوسف أن التعريف والتنكير سواء عند أبي حنيفة رحمهالله ، وذكر في الهداية : الصحيح أن هذا في المنكر ، وأما المعرف فبمعنى الأبد بحسب العرف ، وعندهما الدهر معرفا ومنكرا ستة أشهر.
والدهرية : فرقة من الكفار ذهبوا إلى قدم الدهر واستناد الحوادث إلى الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤].
وذهبوا إلى ترك العبادات رأسا لأنها لا تفيد ، وإنما الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو الواقع فيه ، فما ثم إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وسماء تقلع ، وسحاب يقشع ، ويسمون بالملاحدة أيضا ، فهم عبدوا الله من حيث الهواية.
وفي كليات أبي البقاء : الدهر هو في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، ومدة الحياة ، وهو في الحقيقة لا وجود له في الخارج عند المتكلمين ؛ لأنه عندهم عبارة عن مقارنة حادث لحادث ، والمقارنة أصل اعتباري عدمي ؛ ولذا ينبغي في التحقيق ألا يكون عند من حده من الحكماء بمقدار حركة الفلك ، وأما عند من عرفه منهم بأنه حركة الفلك فإنه وإن كان وجوديّا إلا أنه لا يصلح للتأثير.
والدهر معرفا : الأبد بلا خلاف ، وأما منكرا فقد قال أبو حنيفة رحمهالله : لا أدري كيف هو في حكم التقدير ؛ لأن مقادير الأسماء واللغات لا تثبت إلا توقيفا.
وقد ورد في ترجمة المشكاة عن الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح حديث : «يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر ...» إلى آخره لأن الدهر بمعنى الفاعل والمدبر والمتصرف ؛ لأن سب الدهر مشعر بالاعتقاد في فاعليته وتصرفه كأن يقال : إن الدهر اسم للفاعل المتصرف فقال : «وأنا الدهر» ـ