فمنهم (١) من جعل الأمر على ما عليه الظاهر : أنه غير عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بان له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه ، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل ، فقال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية ، لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة :
أحدها : ما روي في التفسير أنه ربّي في السرب ، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء ، فنظر عن باب السرب في أوّل الليل ، فرأى الزهرة بضوئها وتلألئها ، وكان في علمه أن له ربا وأنه يرى ، فلم ير أضوأ منها ولا أنور ، فقال : هذا ربي ، فلما أفل وله علم أن الرب دائم لا يزول ، فقال : لا أحبّ ، بمعنى : ليس هذا برب ؛ كقوله : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] أي : ليس لنا ، وقول عيسى حيث قال : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦] [بمعنى](٢) : ما قلت ذلك ، لكن أهل هذا التفسير حملوا الأفول (٣) على غيبوبته بنفسه ، وهو عندنا على غيبوبته في سلطان القمر [وقهر سلطان القمر](٤) لما طلع سلطان النجم ، وعنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول ؛ وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل ، وفي ذلك أنه لو كان [عنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول](٥) [وأنه لا يرى](٦) لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه بل أقر به ، وأنكر الأفول والزوال ، وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال.
ومنهم من يقول (٧) : كان هذا [منه في وقت](٨) لم يكن جرى عليه القلم سمع الخلق يقولون في خلق السماء والأرض ونحو ذلك ، وينسبون ذلك إلى الله ؛ وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، وقوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ ...) [المؤمنون : ٨٤] إلى قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ)
__________________
(١) قال ابن جرير في التفسير (٥ / ٢٤٦) وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روى عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو القمر «هذا ربي» وقالوا : غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد وبه عارف.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : الأقوال.
(٤) سقط في أ.
(٥) سقط في ب.
(٦) في ب : آية لا ترى.
(٧) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٠١) ، وتفسير ابن جرير (٥ / ٢٤٦) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٨).
(٨) في ب : في وقت منه.