وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ، سمى عزوجل جميع كتبه نورا وهدى ، وهو نور من الظلمات ، أي : يرفع الشبهات (١) ،
__________________
ـ تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)[النور : ٢].
ينظر تاج العروس ولسان العرب ، مادة : «رجم» والقوانين الفقهية لابن جزي ص ٢٣٢.
(١١) القصاص : أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في المغرب.
وفي الصحاح : القصاص : القود ، وقد أقص الأمير فلانا من فلان إذا اقتص منه فجرحه مثل جرحه أو قتله.
وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص ، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه ، وأخذ كل يدافع عن فكرته ، ويحاجج عن رأيه ، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالعنف في تقرير هذه العقوبة ، وقالوا : إنها غير صالحة لهذا الزمن ، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي ، وتقدموا في الحضارة.
وقد كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام ، ولكن كان للإسراف فيها ضرره البالغ ، فحد الإسلام من غلوائها ، وقصر من عدوانها ، ومنع الإسراف فيها ، فقال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)[الإسراء : ٣٣] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)[البقرة : ١٧٨] وقال عزّ من قائل (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...)[المائدة : ٤٥] الآية ، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس ، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)[المائدة : ٤٥] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث ، وعركوا الأمور ، ودرسوا طبائع النفوس البشرية ونزعاتها وغرائزها ، قد هداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة ؛ لإنتاج الغاية المقصودة ، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس ، ودرء العدوان والبغي ، وإنقاذ كثيرين من الهلاك ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)[البقرة : ١٧٩].
ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكم البالغة ، وقدروها حق قدرها ، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.
وأمكننا الآن أن نقول إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) فهو في غاية الحكمة والعدالة ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف ، وشوه خلقته ، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله أو شرا يصيبه ، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني ، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عضو وتشويهه ما دامت القوة في يده ، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك ، لانكمش وارتدع وسلموا جميعا من الشر.
ينظر الصحاح (٣ / ١٠٥٢) ، القاموس المحيط (٢ / ٣٢٤) ، المغرب (٢ / ١٨٢).
(١) الشبهات جمع شبهة وهي لغة : من أشبه الشيء الشيء أي : ماثله في صفاته. والشّبه ، والشّبه ، والشبيه ، المثل. والجمع : أشباه ، والتشبيه : التمثيل. والشبهة المأخذ الملبس والأمور المشتبهة أي : المشكلة لشبه بعضها ببعض.
واصطلاحا هي : ما لم يتيقن كونه حراما أو حلالا ، أو ما جهل تحليله على الحقيقة ، وتحريمه ـ