موازينه (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).
ولا يحتمل ـ أيضا ـ ما قال غيره من أهل التأويل : إنه أراد ب «الموازين» : الحسنات ، والسيئات ؛ لأن الآية في المؤمنين والكافرين ، فلا سيئة ترجح في المؤمن مع إيمانه ، ولا حسنة ترجح في الكافر مع شركه ، إلا أن يقال : إن توزن حسناته وتقابل بسيئاته دون إيمان ، وكذلك الكافر تقابل سيئاته بحسناته دون الشرك ؛ فذهبت حسناتهم التي كانت لهم في الدنيا بما أنعم الله عليهم في الدنيا ؛ فقد عجل لهم جزاء حسناتهم التي عملوا في الدنيا ؛ بما أنعم عليهم في الدنيا.
وأما المؤمن فيتجاوز عن سيئاته ويتقبل عنه أحسن ما عمل ؛ كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦].
أو أن يكون ما ذكر من الميزان هو الكتاب الذي ذكر في آية أخرى ؛ كقوله (١) :
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق : ٧ ـ ٩] الآية ، [و](٢) كما قال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) [الحاقة : ٢٥].
وقال بعضهم : الوزن هو العدل ؛ كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) [الأنبياء : ٤٧] لم يقل : نضع الموازين بالقسط ، ولكن قال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ، والقسط : هو العدل ، فهو إخبار عن العدل أنه يعدل بينهم يومئذ.
__________________
ـ وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها. بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ؛ فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم. يعرف هذا كل منصف. ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ؛ فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه. وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)[الأنبياء : ٤٧] ،. وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)[النساء : ٤٠] ، وقوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)[القارعة : ٨ ، ٩] ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا مذكورة في كتب السنة المطهرة ، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما ؛ فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه ، مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح. انتهى.
وخلاصته ؛ أن الأصل في الإطلاق : الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر هاهنا.
ينظر : تفسير القاسمي (٧ / ٩ ـ ١٤).
(١) في ب : بقوله.
(٢) سقط في أ.