وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ).
قوله : (وَكَذلِكَ) لا يتكلم إلا على أمر سبق ، فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يقول لما قالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء الأعبد من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهؤلاء ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : كما فضلتكم على هؤلاء في أمر الدنيا فكذلك (١) فضلتهم عليكم في أمر الدين ، ويكونون (٢) هم المقربين إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمدنين مجلسهم إليه ، وأنتم أتباعهم في أمر الدين ، وإن كانوا هم أتباعكم في أمر الدنيا ؛ فكذلك امتحان بعضهم ببعض.
ويحتمل وجها آخر : وهو أن يقال : كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة ؛ كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥].
وكقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨].
وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥].
فعلى ذلك له أن يمتحن بعضكم ببعض.
وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه عنده ، يشتد ذلك عليه ويتعذر ؛ لما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا ، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدين ؛ وعلى ذلك يخرج امتحانه (٣) إبليس بالسجود لآدم لما رأى لنفسه فضلا عليه فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١٢] ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة ، فصار ما صار ؛ فعلى ذلك هؤلاء لم يروا أولئك الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة ، وظنوا أنهم لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا ، وكان لهؤلاء إليهم حاجة ـ يكونون في أمر الدين كذلك ، ويقولون : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ونحوه من الكلام.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا).
قال بعضهم : هو موصول بالأول بقوله : (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) يقول الكافر قول الكفر والمؤمن قول الإيمان. ثم ابتدأ فقال : (أَهؤُلاءِ) أي : يقول الكفرة (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) ليس بمفصول من قوله (لِيَقُولُوا) ولكن موصول به (لِيَقُولُوا) يعني الكفرة (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا).
__________________
(١) في ب : فلذلك.
(٢) في أ : ويكون.
(٣) في ب : امتحن.