عقلوه ولا شاهدوه ، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متّسعا لغيري ، وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلّا منّي ، وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي أردّهم بعد هذا المشهد السنيّ إلى إنذارك وأحجبهم عنّي كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى قربا ، أنزلتك إلى من يكذّبك ويردّ ما جئت به إليه منّي في وجهك ، وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك ، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك ، فهكذا أمنائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم فلا أسخط عليهم أبدا.
ثمّ أخذ في تفصيل هذا البيان ، وقال : انظر كيف أخفى سبحانه أولياءه في صفة أعدائه ، وذلك لما أبدع الأمناء من اسمه اللطيف وتجلّى لهم في اسمه الجميل ، فأخبوه. والغيرة من صفات المحبّة في المحبوب والمحبّ ، فستروا محبّته غيرة منهم عليه كالشبلي وأمثاله وسترهم بهذه الغيرة عن أن يعرفوا فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا ما بدا لهم في مشاهدتهم من أسرار الوصلة ، فقال : لا بدّ أن أحجبكم عن ذاتي بصفاتي فتأهّبوا لذلك ، فما استعدّوا.
فأنذرتهم على ألسنة أنبيائي الرّسل في ذلك العالم فما عرفوا ، لأنهم في عين الجمع ، وخاطبهم من عين التفرقة ، وهم ما عرفوا عالم التفصيل فلم يستعدّوا ، وكان الحبّ قد استولى على قلوبهم سلطانه غيرة من الحقّ عليهم في ذلك الوقت ، فأخبر نبيّه بالسبب الذي أصمّهم على إجابة ما دعاهم إليه فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، فلم يسعها غيره. (وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، فلا يسمعون سوى كلامه (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) من سناه إذ هو النور ، وبهائه إذ له الجلال والهيبة ، فأبقاهم غرقى في بحور اللذّات بمشاهدة الذات ، فقال لهم : لا بدّ لكم من عذاب عظيم. فما فهموا ما العذاب ، لاتّحاد الصفة عندهم ، فأوجد لهم عالم الكون والفساد ، وحينئذ علّمهم جميع الأسماء ، وأنزلهم على العرش الرحمانيّ وفيه عذابهم ، وقد كانوا مخبوئين عنده في خزائن غيوبه ، فلمّا أبصرتهم الملائكة خرّت سجودا لهم فعلّموهم الأسماء. فأمّا أبو زيد فلم يستطع الاستواء ولا أطاق العذاب فصعق من حينه ، فقال تعالى : ردّوا عليّ حبيبي ، فإنّه لا صبر له عنّي ، فحجب بالشوق والمخاطبة وبقي الكفّار فنزلوا من العرش إلى الكرسيّ فبدت لهم القدمان فنزلوا عليهما في الثلث الباقي من ليلة هذه النشأة الجسميّة إلى سماء الدنيا النفسيّ فخاطبوا أهل الثقل الذين لا يقدرون على العروج : هل من داع فيستجاب له ، هل من تائب فيتاب عليه ، هل من مستغفر فيغفر له ، حتّى ينصدع الفجر ، فإذا انصدع