المبطلين ، وأنّه في كنفه تعالى لم يزل ولا يزال محفوظا لا تمسّه يد سوء أبدا.
قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١). (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٢). وهو ضمان إلهيّ مؤكّد وكان وعد الله مفعولا.
هذا مع شهادة التاريخ وضرورته على عدم إمكان مسّ القرآن بسوء.
وقد مرّ عليك كلام الشريف المرتضى (توفّي سنة ٤٣٦). وقال الإمام المجاهد الحجّة الشيخ محمّد الجواد البلاغي (توفّي سنة ١٣٥٢ ق) ـ رحمهالله ـ : لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح والمقتضيات المتجدّدة آنا فآنا يتدرّج في نزوله نجوما ، الآية والآيتان والأكثر والسورة. وكلّما نزل شيء هفت إليه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وهبّوا إلى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الإقبال وأشدّ الارتياح ، فتلقّنوه بالابتهاج وتلقّوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر الله والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى الله وقرآنه ، وتناوله حفظهم بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوّة الحافظة الفطريّة وأثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينذاك هو التجمّل والتكمّل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم ، لكي يتبصّر بحججه ويتنوّر بمعارفه وشرائعه ، وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة ، وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتّخذ المسلمون تلاوته لهم حجّة الدعوة ، ومعجزة البلاغة ، ولسان العبادة لله ، ولهجة ذكره ، وترجمان مناجاته ، وأنيس الخلوة ، وترويح النفس ، ودرسا للكمال ، وتمرينا في التهذيب ، وسلّما للترقّي ، وتدرّبا في التمدّن ، وآية الموعظة ، وشعار الإسلام ، ووسام الإيمان ، والتقدّم في الفضيلة. واستمرّ المسلمون على ذلك حتّى صاروا في زمان الرسول يعدّون بالألوف وعشراتها ومئاتها. وكلّهم من حملة القرآن وحفّاظه ، وإن تفاوتوا في ذلك بحسب السابقة والفضيلة. هذا ولمّا كان وحيه لا ينقطع في حياة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن كلّه مجموعا في مصحف واحد ، وإن كان ما أوحي منه مجموعا في قلوب المسلمين وكتاباتهم له.
ولمّا اختار الله لرسوله دار الكرامة وانقطع الوحي بذلك فلا يرتجى للقرآن نزول تتمّة ، رأى المسلمون أن يسجّلوه في مصحف جامع ، فجمعوا مادّته ، على حين إشراف الألوف من حفّاظه ،
__________________
(١) الحجر ١٥ : ٩.
(٢) فصّلت ٤١ : ٤٢.