فيه وصنّفوه ، وقالوا بنسخ ما ليس بمنسوخ. ومعلوم أن نسخ الشيء ؛ رفع حكمه ، وإطلاق القول برفع حكم آية لم يرفع جرأة عظيمة.
ومن نظر في كتاب «الناسخ والمنسوخ» للسّدّي (١) رأى من التخليط العجائب ، ومن قرأ في كتاب هبة الله المفسر (٢) رأى العظائم.
وقد تداوله الناس لاختصاره ، ولم يفهموا دقائق أسراره ، فرأيت كشف هذه الغمة عن الأمة ، ببيان إيضاح الصحيح ، وهتك ستر القبيح ، متعينا على من أنعم الله عليه بالرسوخ في العلم ، وأطلعه على أسرار النقل ، واستلب زمامه من أيدي التقليد ، فسلّمه إلى يد الدليل ، فلا يهوله قول معظّم ، فكيف بكلام جاهل مبرسم.
فصل
وقد قدّمت أبوابا قبل الشروع في بيان الآيات ، هي كالقواعد والأصول للكتاب ، ثم أتيت بالآيات المدّعى عليها النسخ على ترتيب القرآن ، إلا أني أعرضت عن ذكر آيات ادّعي عليها النسخ من حكاية لا تحصل إلا تضييع الزمان أفحش تضييع ، كقول السدي : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] نسخها (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء : ٥] وقوله : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) [النساء : ٣٨] نسخها : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [التوبة : ٥٣] وقوله : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) [المائدة : ١٠٦] نسخها : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] وقوله : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] نسخها : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [محمد : ١١] وقوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥] نسخها : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] في نظائر كثيرة لهذه الآيات.
لا أدري أيّ الأخلاط الغالبة حملته على هذا التخليط. فلما كان مثل هذا
__________________
(١) هو : إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة ، أبو محمد الحجازي ثم الكوفي الأعور السّدّي ، نسبة إلى سدّة مسجد الكوفة.
توفي سنة سبع وعشرين ومائة (١٢٧).
ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (٥ / ٢٦٤) و «التاريخ الكبير» (١ / ٣٦٠) و «الجرح والتعديل» (٢ / ١٨٤) و «النجوم الزاهرة» (١ / ٣٠٨).
(٢) هو : هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم البغدادي ، المفسّر ، صاحب كتاب «الناسخ والمنسوخ». كان من حفاظ أئمة التفسير ، وكان ضريرا توفي سنة (٤١٠).
ترجمته في : «تاريخ بغداد» (١٤ / ١٧٠) و «العبر» (٣ / ١٠٦) و «شذرات الذهب» (٥/٦٠).