ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر وتسير السفن وترخي الأطعمة وتبرد الماء وتشب النار وتجفف الأشياء الندية وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض ... فلو لا الريح لذوى النبات ولمات الحيوان وحمت الأشياء وفسدت.
( هيئة الأرض )
فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه هذه الجواهر الأربعة (١) ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها ولعل من
__________________
(١) المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار ، والمعروف ان المفكر اليوناني إمبذو قليس ( ٤٩٥ ـ ٤٣٥ ) ق م قد رد الكون الى تلك العناصر أو الجواهر الأربعة التي هي في رأيه لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببا في نشأة الأشياء واختلاف صفاتها تبعا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر .. ولا يخفى ان ما ذهب إليه إمبذو قليس هذا في التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركبت منها تباين ظاهر وتناقص واضح.