وحيث قد اخترنا هناك جريان البراءة شرعاً وعقلاً فلا مانع من الالتزام بجريان البراءة العقلية هنا دون الشرعية بناءً على ضوء نظريته قدسسره من استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه ، وذلك لأنّ الواجب بحكم العقل إنّما هو تحصيل الغرض الواصل إلى المكلف لا مطلقاً ، ومن الطبيعي أنّ المقدار الواصل منه هو ترتبه على الأقل دون الزائد على هذا المقدار ، فاذن بطبيعة الحال كان العقاب على تركه عقاباً بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل. فالنتيجة أنّه لا وجه للتفرقة بين المسألتين في البراءة والاحتياط أصلاً.
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا مانع من جريان أصالة البراءة العقلية والشرعية في كلتا المسألتين ، وذلك لما فصّلناه هناك (١) بشكل موسّع وملخصه :
هو أنّ الغرض لا يزيد على أصل التكليف ، فكما أنّ التكليف ما لم يصل إلى المكلف لا يحكم العقل بتنجّزه ووجوب موافقته وقبح مخالفته وغير ذلك ، فكذلك الغرض فانّه ما لم يصل إليه لا يحكم العقل بوجوب تحصيله واستحقاق العقاب على مخالفته ، بداهة أنّ العقل إنّما يستقل بلزوم تحصيله بالمقدار الواصل إلى المكلف الثابت بالدليل. وأمّا الزائد عليه فلا يحكم بوجوب تحصيله ، لأنّ تركه غير مستند إلى العبد ليصح عقابه عليه ، بل هو مستند إلى المولى ، فإذن العقاب على تركه عقاب من دون بيان وهو قبيح عقلاً.
وإن شئت قلت : إنّ منشأ حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض إنّما هو إدراكه استحقاق العقاب على ترك تحصيله ، ومن الطبيعي أنّ إدراكه هذا إنّما هو في مورد قيام البيان عليه. وأمّا فيما لم يقم لم يدركه ، بل يدرك قبحه ، لأنّه من العقاب بلا بيان ، وعليه فلا مانع من جريان البراءة العقلية في موارد الشك في
__________________
(١) مصباح الأصول ٢ : ٥٠٧.