الفصل الخامس في المعاد
إذا عرفت أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثاً ولا لحاجة له فيهم ؛ لأنه الغني وهم الفقراء إليه ، وإنما خلقهم ليوحّدوه ويعرفوه ويعبدوه وليمنّ عليهم ويرحمهم بالسعادة التي لا تفنى ، فبعث الرسل وأنزل معهم الكتب ليعرّفوا عباده كيف يحصّلون ذلك وما ذا أراد منهم سيّدهم ، وما يبعدهم من رضوانه يجتنبونه ، وتفضّل عليهم بأن أوعدهم الجزاء الدائم ، وهذه الدار لا تصلح لذلك ، لأنها غير دائمة ولا مستقرّة ، بل هي دار العمل خاصّة ، وبالوجدان نرى مَن يعمل فيها ولم نرَ له ثواباً ، فإذن لا بدّ من دار غيرها يدوم فيها الثواب والعقاب. وهذا يقتضي أن الله تعالى لا بدّ أن يبعث العباد ويحييهم بعد الموت ليحاسبهم ويريهم أعمالهم التي أحصاها عليهم ، فيثيب المطيعين بالثواب الدائم ، ويعاقب العاصين بالعذاب الدائم. وهذا مقتضى عدله وحكمته.
واعلم أن المعاد هو النفس وهذا الجسد القائم بها بالعينيّة ؛ لأن التكليف واقع عليهما دفعة ، ولكلّ منهما قسطاً منه ، فهما معاً يستحقّان الثواب والعقاب ؛ لأن الطاعة أو المعصية صادرة منهما ، لأن كلا منهما لا يستقلّ بنفسه بعملها بدون الآخر ، لتوقّف عمل كلّ منهما على كونه مصاحباً للآخر ومركّباً معه ، فالمعصية والطاعة إنما