ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء ـ من الأطباء وغيرهم ـ وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل. واستدلوا بوجوه :
( أحدها ) : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى : أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الاجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون.
والأول مستبعد لوجهين : أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم. الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لابد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد. ونحن نشاهد في هذا العالم : أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير ـ التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم ـ أولى بالانطفاء.
وأما الثاني ـ وهو أن يقال : إنها تكونت ههنا. ـ فهو أبعد وأبعد : لان الجسم الذي صار نارا ، بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته : إما أرضا ، وإما ماء ، وإما هواء. لانحصار الأركان في هذه الأربعة. وهذا الذي قد صار نارا أولا ، كان مختلطا بأحد هذه الأجسام ومتصلا بها. والجسم الذي لا يكون نارا : إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعدا لان ينقلب نارا. لأنه في نفسه ليس بنار. والأجسام المختلطة به باردة. فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا؟!.
وإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام وتجعلها نارا ، بسبب مخالطتها إياها؟.
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية ، كالكلام في الأول.
فإن قلتم : إنا نرى في رش الماء على النورة (١) المطفأة تنفصل منها نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت
__________________
(١) النورة (بزنة ثومة) : حجر الكلس ، أي الجير. ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس : من زرنيخ وغيره. اه ق.