خلقه ـ برئ من الآفات والعلل ، تام المنفعة لما هيئ وخلق. وإنما تعرض له الآفات ـ بعد ذلك ـ بأمور أخر : من مجاورة ، أو امتزاج واختلاط ، أو أسباب أخر تقتضى فساده. فلو ترك على خلقته الأصلية ، من غير تعلق أسباب الفساد به ، لم يفسد.
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه ، يعرف أن جميع الفساد ـ في جوه ونباته وحيوانه ، وأحوال أهله ـ حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه. ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم ، من الفساد العام والخاص ، ما يجلب عليهم ـ : من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين ، والقحوط والجدوب ، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها ، وسلب منافعها أو نقصانها. ـ أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا.
فإن لم يتسع علمك لهذا ، فاكتف بقوله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ، ونزل هذه الآية على أحوال العالم ، وطابق بين الواقع وبينها. وأنت ترى : كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان ، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة ، بعضها آخذ برقاب بعض. وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا ، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى ـ : من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ، وأهويتهم ومياههم ، وأبدانهم وخلقهم ، وصورهم وأشكالهم. ـ وأخلفهم (١) من النقص والآفات ، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم ، كما كانت البركة فيها أعظم. وقد روى الإمام أحمد بإسناده : « أنه وجد في خزائن بعض بنى أمية ، صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر ، مكتوب عليها : هذا كان ينبت أيام العدل ». وهذه القصة ذكرها في مسنده على أثر حديث رواه.
وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة ، بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ، ثم
__________________
(١) هذا عطف على « أحدث ». وفى الأصل : واخلافهم. والزاد : وأخلاقهم. والظاهر أن أصله ما ذكرناه ، فتأمل.