وطيب السريرة ، متحلّياً بمكارم الأخلاق ، خالياً من المكيدة والمراوغة والدسيسة ، مزايلاً للبذاء والإيذاء والاعتساف ، كان رافعاً نفسه عن الرتبة وإشغال المنصّة في أبواب الملوك والولاة ، وما كان له مطمعٌ في شأن من الوزراء والولاية والكتابة والعمالة عند الأمراء والخلفاء ، وما اتّخذ فضائله الجمّة لها شرَكاً ، ولنيل الآمال وسيلةً ، وكان يرى التقمّص بالرئاسة من مرديات النفس ويقول :
رأيت الرئاسةَ مقرونةً |
|
بلبسِ التكبّرِ والنخوهْ |
إذا ما تقمّصها لابسٌ |
|
ترفّع في الجهر والخلوهْ |
ويقعدُ عن حقّ إخوانِهِ |
|
ويطمع أن يُهْرَعوا نَحْوهْ |
ويُنقِصهمْ من جميلِ الدعاءِ |
|
ويأملُ عندهم حظوهْ |
فذلكَ إنْ أنا كاتبتُه |
|
فلا يسمعُ اللهُ لي دعوهْ |
ولستُ بآتٍ له منزلاً |
|
ولو أنَّه يسكن المَروهْ |
وكان بالطبع ـ والحال هذه ـ ينهى أولياءه عن قبول الوظائف السلطانية ، والتولّي لشيءٍ من المناصب عند الحكّام ، ويحذِّرهم عن التصدّي لوظيفةٍمن شئون الملك والمملكة ، ويمثِّل بين يديهم شنعة الائتمار ، وينبِّههم بما يقتضيه الترؤس من الظلم والوقيعة في النفوس ، ونصب العداء لمخالفيه ، وما يوجب من دحض الحقِّ ، وإضاعة الحقوق ، ورفض مكارم الأخلاق. وحسبك ما كتبه إلى صديق له وكان قد تقلّد البريد من قوله :
صرتَ لي عاملَ البريدِ مقيتا |
|
وقديماً إليَّ كنتَ حبيبا |
كنت تستثقل الرقيبَ فقد صر |
|
تَ علينا بما وَلِيتَ رقيبا |
كرهَتْكَ النفوسُ وانحرفتْ عن |
|
ـكقلوبٌ وكنت تسبي القلوبا |
أفلا يُعجَبُ الأنامُ بشخصٍ |
|
صار ذئباً وكان ظبياً ربيبا |
حِكَمه ودرر كَلِمِه :
فيا له في شعره من شواهد صادقة تمثِّله بهذا الجانب العظيم ، وتعرب عن قَدم