كان يرى الشعر إحدى مآثره الجمّة ، ويعدُّه من فضائله ، وما كان يتّخذه عدّة للمدح ، ولا جُنّةً في الهجاء ، وما يهمّه التوجّه إلى الجانبين ، لم ير لأيٍّ منهما وزناً ، لعدم تحرِّيه التحامل على أحد ، وعدم اتِّخاذه مكسباً ليدرّ له أخلاف الرزق ، ولا آلةً لدنياه وجمع حطامها ، وكان يقول :
ولئن شعرتُ لَما قصد |
|
تُ هجاءَ شخصٍ أو مديحهْ |
لكن وجدتُ الشعر لل |
|
آدابِ ترجمةً فصيحهْ |
هجاؤه :
أخرج القرن الرابع شعراء هجّائين ، قد اتّخذ كلُّ واحدٍ منهم طريقة خاصّة من فنون الهجاء ، وكلُّ فنّ مع هذه نوعٌ فذٌّ في الهجاء ، يظهر ميزه متى قُرِن بالآخر ، ومنهم مكثرٌ ومنهم من استقلّ ، وشاعرنا من الفرقة الثانية ، وله فنٌّ خاصٌّ من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.
ولعلّك تجده في فنِّه المختار مجبول خلائقه الحسنة ، ونفسيّاته الكريمة ، وملكاته الفاضلة ، فكأنّه قد خُمِرت بها فطرته ، ومُزِجت بها طينته ، أو جرت منه مجرى الدم ، واستولت على روحه ، وحكمت في كلِّ جارحةٍ منه ، حتى ظهرت آياتها في هجائه النادر الشاذّ ، فيُخيَّل إليك ـ مهما يهجو ـ أنَّه واعظ بارّ يخطب ، أو نصوحٌ يُودِّد ويعاتب ، أو مجادلٌ دون حقِّه يجامل ، لا أنَّه يغمز ويعيب ، ويغيظ في الوقيعة ويناضل ، ويثور ويثأر لنفسه ، وتجده قد اتّخذ الهجاء شكّة دفاع له لا شكّة هجوم ، وترى كلّه جائه خليّا عن لهجةٍ حادّة ، وسِبابٍ مُقذع ، عارياً عن قبيح المقال وخبث الكلام ، بعيداً عن هتك مهجوِّه ، ونسبته إلى كلِّ فاحشة ، وقذفه بكلِّ سيِّئة ، غير مستبيح إيذاء مهجوِّه ، ولا مستحلٍّ حرمته ، ولا مجوِّز عليه الكذب والتهمة ، خلاف ما جرت العادة بينك ثير من أدباء العصور المتقادمة ، فعليك النظر إلى قوله في