من الغيظ. فلم نزل ذلك اليوم في شغل شاغل حتى جمعنا بين طرفي البكر والأصائل ، وولّى ذلك النهار الطائل وعطفه في الثوب القصير رافل ، وأخذت الشمس في الاصفرار من ذلك المنظر المهول ، وعزمت على الفرار وصممت على الأفول ، فنزلنا حينئذ بمرج متسع قاطع قلعة المركز ، قد ألبسه الربيع ثيابا سندسيّة طرّفها (١) بأنواع الزهر وطرّز ، وسحب عليه النسيم أذياله ، فاكتست من عرفه شذا ، وجرت في خلاله عيون كالأنهار سالمة (٢) من الكدر والقذا ، ودارت كاسات رحيقها فانتشى الغصن مستنبذا ، وروى العشب واغتذا ، وجاوره البحر المالح فلم يحصل له بمجاورته أذى ، [٣٧ ب] فبتنا بتلك البقعة المتسعة ليلة سابع شوال وهي ليلة الجمعة ، ورحلنا منها عندما اكتهل الليل وشاب ، وأقبل النهار يخطر في برود الشباب ، وغردت الحمائم على أعوادها ، وأعربت بعجمتها عما أكنته من الشجو في فؤادها ، فأثارت تباريح أشجان لم تبرح ، وأفاضت مياه أجفان لم تنزح ، وترنمت متمثلا في تلك البقاع بقول عديّ ابن زيد المعروف بابن الرّقاع العامليّ (٣) : [من الطويل]
ومما شجاني أننّي كنت نائما |
|
أعلّل من برد الكرى بالتنسم |
إلى أن دعت ورقاء في غصن أيكة |
|
تردد مبكاها بحسن الترنم |
ولما تلاقينا وجدت بنانها |
|
مخضبة تحكى عصارة عندم |
فقلت خضبت الكفّ بعدي هكذا |
|
ولم تحفظي عهد المشوق المتيم |
فقالت وأذكت في الحشا لاعج الهوى |
|
مقالة من الود لم يتبرم |
__________________
(١) وردت في (م): «فوفها».
(٢) وردت في (ع): «سالة».
(٣) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع) ، وبعض هذه الأبيات في ديوان ابن الرّقاع ص ٢٦٦.