فجمال الدين بقلمه ولسانه كان أصدق ممثّل لفكر الجامعة الإسلاميّة.
وقال تلميذه الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصريّة في ترجمته التي صدّر بها رسالة السيّد جمال الدين في الردّ على الدهريّة : إنّ السيّد جمال الدين كان حقيقة كلّيّة تجلّت في كلّ ذهن بما يلائمه أو قوّة روحيّة قامت لكلّ نظر بشكل يشاكله ، والرجل في صفاء جوهره وذكاء مخبره لم يصبه وهم الواهمين ، ولم يمسّه ضرر الخرّاصين ، في السنة الثامنة من عمره أجلس للتعليم وعنى والده بتربيته ، وأيّد العناية به قوّة في فطرته وإشراق في قريحته ، وذكاء في مدركته ؛ فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها ، تلقّى علوما جمّة برع في جميعها منها العلوم العربيّة من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عامّ وخاصّ ، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوّف ، ومنها علوم عقليّة من منطق وحكمة عمليّة سياسيّة ومنزليّة وتهذيبيّة وحكمة نظريّة طبيعيّة وإلهيّة ، ومنها علوم رياضيّة من حساب وهندسة وجبر وهيأة أفلاك ، ومنها نظريّات الطبّ والتشريح ، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين على الطريقة المعروفة في تلك البلاد ، وعلى ما في الكتب الإسلاميّة المشهورة ، واستكمل الغاية من دروسه في الثامن عشرة من سنّه ، ثمّ عرض له سفر إلى البلاد الهنديّة فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضيّة على الطريقة الأورپاويّة الجديدة.
أمّا مقصده السياسي الذي وجّه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدّة حياته وكلّ ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله ، فهو إنهاض دولة إسلاميّة من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتّى تلحق الأمّة بالأمم العزيزة والدول بالدول القويّة فيعود للإسلام شأنه والدين الحنيفيّ مجده ، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقيّة وتقليص ظلّها عن رؤوس الطوائف الإسلاميّة ، وله في عداوة الانكليز شؤون يطول بيانها.