ذكرى معناها توبة ، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله بعد ما تقدم من الأوامر والنواهي ، ومنبها على محل الصبر ، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به ، وأتى بعام وهو قوله : أجر المحسنين ، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه ، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كريما ، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه. وقال ابن عباس : المحسنون هم المصلون ، كأنه نظر إلى سياق الكلام. وقال مقاتل : هم المخلصون ، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم.
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) : لو لا هنا للتحضيض ، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) (١) والقرون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين ، وسمي الفضل والجود بقية ، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبه فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم. ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا. وإنما قيل : بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول. وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرأت فرقة : بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي ، نحو : شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : بقية بضم الباء وسكون القاف ، وزن فعلة. وقرىء : بقية على وزن فعلة للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره ، والمعنى : فلو لا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر. إلا قليلا استثناء منقطع أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى ، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب ، وغيره
__________________
(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٠.