ومن الصاغرين : من الأذلاء ، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته ، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وأقامت عذرها عند النسوة ، فرقت عليه ، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة : أطع وافعل ما أمرتك به ، فقال : رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها ، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار ، فالتجأ إلى الله تعالى. والتقدير : دخول السجن. وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي : حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل ، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط ، وإنما هذان شران ، فآثر أحد الشرّين على الآخر ، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة ، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة ، لم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله ، والصبر على النوائب ، وانتظار الفرج ، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعيا له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة بالله ، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين ، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو.
فقال : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي : أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله : أصب ، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط ، لا بمباشرة المعصية. وقرىء أصب إليهن من صببت صبابة فأنا صب ، والصبابة إفراط الشوق ، كأنه ينصب فيما يهوى. وقراءة الجمهور : أصب من صبا إلى اللهو يصبو صبا وصبوّا ، ويقال : صبا يصبا صبا ، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين يعملون بما ، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر :
إحدى بليلى وما هام الفؤاد بها |
|
إلا السفاه والاذكرة حلما |
وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله : وإلا تصرف عني ، فيه معنى طلب الصرف والدعاء ، وكأنه قال : رب اصرف عني كيدهن ، فصرف عنه كيدهن أي : حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه ، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه