فقال : قد جعلها ربي حقا أي : صادقة ، رأيت ما يقع لي في المنام يقظة ، لا باطل فيها ولا لغو. وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض. قيل : ثمانون سنة ، وقيل : ثمانية عشر عاما. وقيل : غير ذلك من رتب العدد. وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض ، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (١) وقد يتعدى بالباء قال تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢) كما يقال أساء إليه ، وبه قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة |
|
لدينا ولا مقلية إن تقلت |
وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف ، فعداه بالباء ، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحا عن ذكر ما تعلق بقول إخوته ، وتناسيا لما جرى منهم إذ قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) (٣) وتنبيها على طهارة نفسه ، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة. وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب ، إلى أن بيع مع العبيد ، وجاء بكم من البدو من البادية. وكان ينزل يعقوب عليهالسلام بأطراف الشام ببادية فلسطين ، وكان رب إبل وغنم وبادية. وقال الزمخشري : كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع. قيل : كان تحول إلى بادية وسكنها ، فإنّ الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل : كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله :
وأنت التي حببت شعبا إلى بدا |
|
إليّ وأوطاني بلاد سواهما |
وليعقوب عليهالسلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال : بدا القوم بدوا ، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غورا ، إذا أتوا الغور. والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ، ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك ، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليهالسلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو ، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وإخوته ، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث : «من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة» من بعد أن نزغ أي أفسد ، وتقدم الكلام على نزغ ، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (٤) وذكر هذا القدر من أمر إخوته ، لأنّ النعمة إذا جاءت
__________________
(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٧.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.
(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٩٢.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.