(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل ، والالتجاء إلى الله تعالى. وأتى بضمير جماعة المتكلمين ، لأنه تقدم ذكره. وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبنيّ ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه. وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة ، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفا من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية. وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره. ومن للتبعيض ، لأنّ إسحاق كان في الشام ، والوادي ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ، وإنما قال : غير ذي زرع ، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقها الماء ، وإنما نظر النظر البعيد فقال : غير ذي زرع ، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال : غير ذي ماء ، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك. قال ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء ، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء. وقال الزمخشري : بواد هو وادي مكة ، غير ذي زرع : لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (١) بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله : لا يكون ، وليس هو ماضيا ، وهو مكان أبدا الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أن قوله : عند بيتك المحرم ، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء ، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة ، وفي آل عمران. ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي : منع منه ، كما سمي بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لكونه لم يزل عزيزا ممنعا من الجبابرة ، أو لكونه محترما لا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دعاء معترض ، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة. وقيل : هي لام الأمر ، دعا لهم بإقامة الصلاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي : اللام متعلقة بقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى. وهذا بعيد جدا. وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها ، أو لأنها سبب لكل خير. وقوله : ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن
__________________
(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٨.