صاحب الغنيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة ، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى :
قال له البرق وقالت له الريح |
|
جميعا وهما ما هما |
أأنت تجري معنا قال إن |
|
نشطت أضحكتكما منكما |
أنا ارتداد الطرف قد فته |
|
إلى المدى سبقا فمن أنتما |
ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة ، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم وصفهم بانتفاء العلم ، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئا ، تنبيها على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعالى امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم ، ولما كانت النشأة الأولى ، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال : لعلكم تشكرون ، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة : بكسر الهمزة ، والميم هنا وفي النور ، والزمر ، والنجم ، والكسائي بكسر الهمزة فيهن ، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم ، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم.
قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ، ولكنّ قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة ، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع ، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي : غير عالمين. وقالوا : لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، أو شيئا مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة ، أو شيئا من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء ، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب : يولد المولود حذرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفا على أخرجكم ، فيكون واحدا في حيز خبر المبتدأ ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفا على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها ، فعبر عن ذلك بالآية. وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه : إنما جمع الفؤاد جمع قلة ، لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية اليقينية ، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية ، فكان فؤادهم ليس بفؤاد ، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصا. وهو قول هذياني ، ولو لا جلالة قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته ، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري : أنه من جموع القلة التي جرت مجرى