مجنون عديم العقل كليا. فيقول : وأنت ما ذا تقول عني يا حبيبي؟ فأقول له : إنك معلم جليل وأعظم الفلاسفة الموجودين بعصرنا هذا. فيضحك ويقول إنك لم تر بعد شيئا مني ، ولكن سوف ترى أفعال أبيك الروحي لاسكاريس. ولكن لا تسألني عن شيء أبدا إنما انظر بعينيك ما سيقع مني شيئا فشيئا.
ثم بعد ذلك جميعه شددنا الأحمال ودبرنا كل أمورنا لأجل السفر. وقبل سفرنا بيومين جاء بزئبق ووضع معه أجزاوات هو يعرفها ، وجعل الزئبق مثل الدهن ، وملأ منه علبة. فقلت له يا سيدي ووالدي : لما ذا يصلح هذا؟ قال : ألم أقل لك مهما رأيت لا تسأل عنه. قلت : نعم ، ولكني أظن أن هذا السؤال لا يضرك الجواب عليه. قال : إنه لأجل القمل كي لا يقرب منا ، تدهن خيطا منه وتضعه في رقبتك فلا يجيء القمل نحوك. فقلت له : يا سيدي ١ / ٤ هل تظن أن قمل أهالي حماة وحمص يسعى على الأرض؟ فضحك وقال : إن الشرط الأول / الذي شرطه عليك ألّا تبحث عما أفعل بل تنظر بعينيك فقط.
ثم ثاني يوم من بعد هذا الحديث قال لي : يا ولدي كنت مزمعا على السفر عاجلا ، ولكني رأيت من المستحسن أن أبقى في حلب ثلاثين نهارا ، من غير عمل شيء كليا ، بل إن هذه الأيام الثلاثين جعلتها لك ، تمضيها بالبسط (١) والغناء واللعب والسهرات ، والانشراح مع النساء ، وجميع أنواع اللهو (٢) ، واصرف مهما أردت ، فإن هذا الصندوق المملؤ دراهم كله لك ، لا تتوقف عن شيء كليا. فأخذت أقول في نفسي : يا صبي ، الله والعالم ، هذا كلام من يريد أن تودع الدنيا ، وكأن منتهى حياتي سيكون على يده ، وعند ذلك رميت كل هم وغم وكرب عن بالي ، وابتدأت بالبسط والسهرات والبساتين والمآكل اللذيذة والفرح ، وعملت كل ما يلذني ويسر خاطري. وأقمت ثلاثين نهارا على هذا الحال ، وهو كل يوم يحضر إلى عندي ويقول لي : كن مسرورا ولا تتوقف من شيء. فما زلت على هذا الحال حتى مضت الأيام الموعودة. فقال لي : يا عزيزي قد انتهت الثلاثون يوما ، فهلمّ بنا نسافر ونربح المكاسب.
فقلت في بالي : ليس عليك علامات الذين مرادهم أن يكسبوا ، ولكني سأكون طويل البال وإن شاء الله سوف أعرف مرادك.
__________________
(١) «بالكيفيات».
(٢) «المكيفيات».